د.عبد الرحمن الحبيب
هل سبق أن وقعت ضحية إرشادات صحية وغذائية في الإنترنت بدواء أو عشبة فلانية أو فاكهة علانية أو طريقة علاجية ثم تورطت بها في مصائب لم تتوقعها؟ إن لم تكن كذلك فاحمد ربك على العافية العقلية أولاً والجسمانية ثانياً، فكثير من الناس تورطوا.
إنه فن التجهيل عن قصد أو غير قصد.. فن قديم زاده الإنترنت ازدهارا.. في دراسة علمية محكّمة (د. خالد النمر وآخرون، 2015) عن سلامة المعلومات الصحية في تويتر نشرت مؤخراً في مجلة أبحاث الإنترنت الطبية، وجد أن نحو ثلثي حسابات التغذية والحسابات الطبية غير الرسمية التي تغرد باللغة العربية كانت معلوماتها غير صحيحة وفقا لتقييم أطباء استشاريين (شهادة البورد الأمريكي). كما وجد بشكل عام أن حوالي نصف المعلومات كان غير صحيح، وأقل المعلومات صحة كانت لحسابات التغذية، بالمقابل كان أعلاها صحة هي الحسابات الحكومية الرسمية وحسابات الأطباء الرسمية. فانتبه لا تضع في بطنك ما يقترحه لك الجُهال، فأنت محتاج لصحتك ولعقلك أحوج!
المعلومات المزيفة ليست في مجال الصحة فحسب بل في كل مجالات الحياة. ديفيد داننغ من جامعة كورنيل الذي يدرس ظاهرة نشر الجهل يحذر من أن الإنترنت يساعد في هذا الانتشار. فهو المكان الذي يجد فيه كل شخص فرصته ليصبح خبير نفسه، مما يجعل هؤلاء ضحايا لأصحاب السلطة والنفوذ الراغبين في نشر الجهل عن قصد وتخطيط.
ما أكثر من وضعوا أنفسهم خبراء في موضوعات لا يتقنون فيها غير مهارة الحكي وتجربتهم الشخصية الضحلة. فما هي تكتيكات صناعة الجهل؟ يمكن حصر أهمها في ثلاثة. الأول هو إثارة الشك بلا سند من حقائق، والثاني تعمد الكذب أو التجهيل عن قصد أو غير قصد، والثالث تحوير جوهر الموضوع وجعله ثانوياً والفروع أساسية.
بالنسبة للنوع الأول نجد أشهر مثال عالمي جنسية الرئيس الأمريكي أوباما، فقد أدت الشكوك التي أثيرت لعدة شهور بدوافع سياسية حول جنسيته عن طريق معارضيه، إلى اضطراره لإبراز شهادة ميلاده. مثال عالمي آخر هو إثارة الشكوك بأن السعودية تتعمد خفض أسعار النفط.. لقد توصل روبرت بروكتور (مؤرخ علمي بجامعة ستانفورد) في دراساته أن الجهل ينتشر عندما لا يفهم كثير من الناس حقيقة ما أو فكرة ما، حيث تقوم جماعات المصالح الخاصة مثل شركة تجارية أو جماعة سياسية بعمل جاد لخلق حالة من الارتباك والحيرة إزاء قضية من القضايا.
في النوع الثاني لدينا أمثلة محلية يصعب حصرها مثل ما ذكر في المقدمة، ومثل نشر خرافات حول: فئة اجتماعية، تيار ثقافي، طائفة دينية، منطقة جغرافية.. إلخ، أو حول شخصية معروفة. وعلى المستوى العالمي يقول دانينغ: «دونالد ترامب (المرشح اليميني المتطرف) هو المثال الواضح في الوقت الراهن في أمريكا، فهو يقترح حلولاً سهلة لمناصريه، لا هي دستورية، ولا يمكن تطبيقها عملياً... القلق الذي أشعر به ناتج ليس عن عدم قدرتنا على اتخاذ قرار، ولكن من أنه أصبح من السهل جداً أن نتخذ قراراتنا».
في النوع الثالث مثاله عندنا حين تتعرض شخصية مشهورة للاتهام بحقائق واقعية أو الإدانة الرسمية بسرقة كتاب أو تزييف شهادة دكتوراه أو ادعاء عدد ضخم من المتابعين في شبكة الإنترنت.. الخ، يكون رد المدان أو المتهم بأنه شخصية معروفة ومفكر ماهر ليس في حاجة للسرقة أو التزييف أو الادعاء الكاذب. الحاجة أو عدم الحاجة موضوع آخر ليس في صلب الدعوى، بل تحوير له كما يحور رجل ثري متهم بالاختلاس بأنه ليس بحاجة للمال.
يقول بروكتور: «كنت أعكف على استكشاف كيفية نشر الشركات الكبيرة والقوية للجهل من أجل بيع منتجاتها.. وبت على قناعة بأنه يتوجب على المؤرخين إعطاء هذا الأمر اهتماماً أكبر.. في الوقت الذي يستفيد فيه بعض الأذكياء من المعلومات المتوافرة على الإنترنت، فإنَّ كثيراً منهم يقعون في براثن الخداع حين يصدقون ما يقوله أصحاب الخبرات المزيفة».
لقد نقل الإنترنت موقفنا المعرفي بشكل جذري حين تحولت المعرفة إلى معلومات تباع وتشترى. هذا ما اعتبره ليوتار إخضاع المعرفة للتجارة، فأصبحت المعرفة منفصلة عن سؤال الحقيقة. لم تعد المعرفة تحاكم في مدى حقيقتها بل كيف يمكنها خدمة غاية معينة. وعندما نتوقف عن السؤال المعرفي «هل هذا حقيقي؟» ونستعيض عنه بسؤال «كيف يمكن بيعه؟»، فإنَّ المعرفة تتحول إلى بضاعة. وهنا يتخوف ليوتار من أن ذلك إذا حدث فإنَّ الشركات الخاصة قد تسعى إلى التحكم في تدفق المعرفة، وتقرر من يمكنه الوصول إلى هذا النمط من المعرفة ومتى.
كيف يواجه الفرد هذا المأزق؟ لم تتراكم معرفة منهجية إزاء مواجهة التزييف في الإنترنت، والمطروح هو اجتهادات. من خلال تجربتي لعدة سنوات في الدورات التدريبية لتحري مصداقية مصادر البحث العلمي يمكنني اقتراح ثلاثة أمور. أولاً: طريقة البحث المناسبة بمعرفة الرموز وعلامات الترقيم لكل محرك بحث، خاصة جوجل حيث هناك رموز وخطوات توضيحية تسهل للباحث الوصول للمعلومات الموثوقة والبحوث والتقارير الرصينة.
ثانياً: الاختيار المناسب بين هذه المواقع من خلال تقييم درجة الثقة بمعلومات المحتوى. هل هي من أبحاث محَكَّمة علمياً ودراسات متخصصة وإحصاءات من جهات بحثية أو حكومية؟ وإذا كانت غير ذلك فهل المصدر يذكر المرجع الذي استقى منه المعلومات، أم أنه يقدح من رأسه تارة وينقل معلومات من آخرين تارة أخرى ويضعها في غير موضعها؟ وهل هو متخصص؟ ما هو تاريخ صدور هذه المعلومات.. قديمة أم حديثة؟ هل اللغة المستخدمة لغة موضوعية أم إنشائية.. حقائق أم آراء شخصية؟ نتائج أم استنتاجات؟ هل هي استقرائية (أدلة مادية)، أم استنباطية (أدلة عقلية)؟ درجة الثقة ترتفع مع الدراسات والإحصاءات المتخصصة وتنخفض مع المواقع الصحفية وتهبط كثيراً مع المواقع الاجتماعية وأكثر هبوطاً مع المواقع الشخصية.
ثالثا: التركيز على صلب الموضوع لالتقاط المعلومة المطلوبة، واختيار الأهم من المهم، وإدارة الوقت وتجنب عوامل الإلهاء والتشتيت المخرجة عن موضوع البحث، فالإنترنت يزخر بإجابات مغرية لكنها غير ضرورية للبحث.. «الحصول على المعلومات من الإنترنت مثل محاولة الحصول على كأس ماء من شلالات نياجرا»، حسب وصف العالِم وكاتب الخيال العلمي آرثر كلارك.