د.عبد الرحمن الحبيب
يؤكد تقرير مؤشر مكافحة الفساد لمنظمة الشفافية الدولية الأخير لعام 2015 أنه لا يوجد أيّ بلد في العالم خال من الفساد، موضحاً أن ثلثي بلدان العالم لديها مشكلة فساد جسيمة، وأن نصف دول مجموعة العشرين منها.. فهل نحن من ضمنها؟.
المؤشر يقوم بوضع درجات من صفر (فاسد جداً) إلى مائة (نظيف جداً)، معتبراً أن الحد الأدنى لنجاح أي دولة هو 50 نقطة.. السعودية حصلت على 52 نقطة بترتيب 48 بين 168 بلداً في العالم.. وإذا كانت هذه النتيجة تشير إلى أننا خرجنا من تلك الدول التي أشار لها التقرير بالفساد الجسيم فنحن لسنا بعيدين ولسنا بمأمن إذا لم تتواصل الجهود الحالية المبذولة ويتم تطويرها.
لو عملنا مقارنة الدرجة التي حصلت عليها السعودية في المؤشر خلال السنوات الماضية نجد أنها تتحسن.. فمن معدل 34 درجة خلال الفترة 2004- 2007 إلى 38 درجة عام 2008، وارتفع إلى 43 عام 2009 وتراوحت في الأعوام التي تلتها بين 44 و47 درجة حتى 2013م ثم ارتفعت إلى 49 عام 2014 وبلغت 52 للعام الماضي.. هذه نتيجة جيدة مقارنة بدول العالم، لكنها لا تدعو للاطمئنان الكامل فالدرجة على «الحافة»، ومقارنة ببعض دول الخليج لا نظهر معها في المقدمة.
بإلقاء نظرة عامة على المستوى العالمي، سنجد كالعادة أن الدول الاسكندينافية في المقدمة (بين 87 إلى 91 نقطة)، ولأول مرة دخلت بريطانيا نادي العشرة الأوائل (81 نقطة) بترتيبها العاشر مكرر. آخر دول العالم في الترتيب كانت إما إفريقية أو عربية (الصومال، السودان، ليبيا، العراق، اليمن، سوريا) ومعها كوريا الشمالية وفنزويلا (بين 8 و 18 نقطة).
على المستوى العربي جاءت في المقدمة قطر (71 نقطة) والإمارات (70)، ثم الأردن والسعودية كما ذكر سابقاً، فالبحرين (51) والكويت (49).. أما دول الوسط فكانت تونس التي تراجعت قليلاً (38 نقطة) والجزائر ومصر والمغرب (36 نقطة).. ثم ينحدر المستوى إلى لبنان (28 نقطة) فبقية الدول العربية المشار إليها في ذيل القائمة العالمية. بالنسبة لدول المنطقة غير العربية نجد ترتيب تركيا 66 عالمياً مسجلة 42 نقطة ومتراجعة عن 45 نقطة العام الماضي وعن 50 نقطة العام قبل الماضي. باكستان سجلت 30 نقطة وترتيبها 117. أما الأخيرة فهي إيران التي ظلت متخلفة في الترتيب منذ بداية ظهور التقارير وسجلت في المؤشر الأخير 27 نقطة وترتيبها 130.
بالنسبة لدول مجموعة العشرين تتقدمها كندا ثم ألمانيا وبريطانيا (فوق ثمانين نقطة)، يليها: أستراليا، أمريكا، اليابان، فرنسا (فوق سبعين نقطة)، وفي الوسط كوريا والسعودية (فوق الخمسين)، وتحت الوسط إيطالياً، جنوب إفريقيا، تركيا (فوق الأربعين)، وتهبط الدرجات إلى الثلاثينات لدى: البرازيل، الهند، الصين، إندونيسيا، المكسيك، الآرجنتين. أما روسيا فهي قابعة في المؤخرة (29 نقطة).
ماذا تظهر هذه النتائج؟.. إنها صورة قاتمة لكثير من دول العالم لكنها تؤكد أن عمل الناس معاً لمكافحة الفساد بإمكانه أن ينجح.. فرغم أن الفساد منتشر عالمياً إلا أن هناك دولاً تحسن أداؤها وأظهرت نتائج أفضل من السابق، مثل السعودية واليونان والسنغال وبريطانيا، بينما هناك بلدان أظهرت تراجعا مثل البرازيل، ليبيا، إسبانيا، تركيا. لذا فإن المؤشر حسب المنظمة هو بمثابة تذكير بدرجة الفساد الذي ينهش المجتمعات حول العالم؛ هادفاً إلى تجديد الجهود لاتخاذ إجراءات صارمة ضده.
إذا كانت عواقب الفساد تعني مدارس غير مهيأة، ومستشفيات رديئة وأدوية مغشوشة وانتخابات يقررها المال فتلك بعضها، فالرشاوى والصفقات خلف الكواليس ليست مجرد سرقة الموارد من الفئات الأكثر ضعفاً، أنها تقوض العدالة والتنمية الاقتصادية، وتقضي على ثقة الشعب في الحكومة. في التعامل مع العديد من قضايا الفساد المستشري، تطرح منظمة الشفافية البرازيل على سبيل المثال، حيث هزتها فضيحة الفساد المالي لشركة بيتروبراس النفطية البرازيلية، إذ أظهرت التقارير أن السياسيين أخذوا رشاوى مقابل منح العقود العامة.. وخسرت الشركة بسببها المليارات، لكن الذي ذهب ضحيتها هم عشرات آلاف من العمال الذين سرحوا من عملهم دون ذنب منهم.
الفساد يطال حتى الدول «النظيفة».. خذ مثلاً السويد ترتيبها الثالث في المؤشر ومع ذلك فإن شركة تيليسونريا التي تملك الحكومة السويدية 37 % منها، تواجه اتهام الإدعاء بدفع ملايين الدولارات لضمان العمل في أوزبكستان التي تقع في المرتبة 153 في المؤشر. الشركة الآن تنسحب للخروج من الأعمال في آسيا الوسطى، إنما السويد ليست البلد «النظيف» الوحيد المرتبطة بسلوك المراوغة في الخارج، حسبما تذكر المنظمة، التي أظهرت أبحاثها أن نصف دول منظمة التعاون الاقتصادي (34 دولة تلتزم الديمقراطية التمثيلية والاقتصاد الحر) تنتهك التزاماتها الدولية للقضاء على الرشوة من قبل الشركات في الخارج.
نعود لما بدأنا به عن تحسن الأداء السعودي في مكافحة الفساد، هذا التحسن قد يكون مرده كثافة تناول موضوع الفساد في الإعلام وارتفاع الوعي ودرجة الثقة بجدية الحكومة في مواجهته، فقبل عشر سنوات أصدر مجلس الوزراء قراراً بإنشاء هيئة لمكافحته.. وقبل خمسة أعوام أصدر خادم الحرمين الشريفين أمراً ملكياً بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد موضحاً بلغة حازمة «أن مهامها تشمل كافة القطاعات الحكومية، ولا يستثنى منها كائناً من كان.»
التحسن في حد ذاته إيجابي لكن البطء يعني أن ثمة عراقيل وتحديات عديدة يتعذر حصرها هنا، ويعنينا منها التحدي الإعلامي في مواجهة الفساد وكشفه. إذا كانت الشفافية تخلق مشاركة يومية عن طريق الإعلام والجماهير، فإن الإنترنت وسع من دور الشفافية حتى صار بعض الباحثين يرى أنها أصبحت أهم عناصر الديمقراطية التشاركية أكثر من الانتخابات التي تحصل كل بضع سنوات، لأنها تسهل على الآخرين بشكل يومي معرفة ما يتم عمله، ومن ثم تمنحهم القدرة على المساءلة والاقتراح.. الديمقراطية الحديثة تبني على هذه المشاركة من الناس ووسائل الإعلام عبر الشفافية، كما تؤكد الأبحاث الأخيرة (دراسة سوزان مولر وآخرون).. فضمن ما ذكره قرار مجلس الوزراء في وسائل تحقيق أهداف الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد كفالة حرية تداول المعلومات باعتبارها مبدأ أساسياً في طريق الشفافية والمكاشفة.. الطريق ما زال طويلاً.