د.عبد الرحمن الحبيب
خلال الأجواء الحيوية في نقاشات «التحول الوطني» داخل الوزارات والمؤسسات الكبرى بالمملكة، وما تشهده من حركة سريعة غير معتادة للتطوير وإعادة الهيكلة الإدارية واختيار كفاءات جديدة من خارج مؤسساتها المعتادة، ثمة عراقيل وتحديات عديدة تواجه عملية التحول..
بعض هذه التحديات ناقشتها في مقالات سابقة، وهنا سينصب التركيز على شكوى يطرحها رعيل المخضرمين وكثير من الموظفين على الإدارة الجديدة في مؤسساتهم، بأنه ينصب اعتمادها على المستشارين والمعينين الجدد أثناء التحول وإعادة الهيكلة، وأنّ التغييرات تتم فجأة دون مشورتهم وأنها تتعارض مع الأسس الإدارية المناسبة من وجهة نظرهم.
إذا كان المستشارون غالباً أصحاب اطلاع نظري واسع (أكاديمي على وجه الخصوص)، فإنّ تجربتهم الواقعية في الإدارة قد لا تكون كذلك. وإذا كان المسؤولون الجدد أصحاب كفاءة عالية في مؤسساتهم السابقة فلا يعني ذلك استغناءهم عن خبرة قدامى المسؤولين وكبار الموظفين المهرة. لن يستطيع المسؤول الجديد تنفيذ برنامجه الجديد إن لم يُقنع الفريق العتيق داخل المؤسسة، وأيضاً إقناع الصف الثاني من الموظفين. ولن يتمكن من إقناعهم ما لم يستمع إليهم جيداً ويُقدِّر خبراتهم وطرق عملهم، ثم يحاول إقناعهم بخطته الجديدة.
هناك متطلبات للخطط النظرية الجديدة التي يصنعها المستشارون ويصدرها المسؤول الجديد، «فلا شيء أكثر عملية من النظرية الجيدة»، كما قال المفكر كورت لوين مؤسس علم النفس الاجتماعي الذي وضع نظريات حيوية تسهل التطبيق أثناء التغيير، منذ منتصف القرن العشرين وما تزال مرجعاً أساسياً للمؤسسات في أمريكا، (كتاب علم النفس، دار دي كي، 2015).
بعض المسؤولين المهرة يظن أن مجرد كون خطته سليمة يُعَد كافياً، ومن يتعرض عليها من الموظفين فعليه المغادرة أو التهميش، كما قال لي أحد المسؤولين، معللاً ذلك بضرورة الانضباط لتنفيذ الخطة بغض النظر عن مشاعر الممانعين. فهل هذا المنطق ناجح عملياً؟ يقول لوين: العديد من المؤسسات فشلت في التحول لأنه ببساطة لم يتم تجهيز وإقناع الموظفين بطريقة مناسبة، مما يجعلهم يقاومون التنظيم الجديد.
خلال دراساته للسلوك أثناء تحول خطة المؤسسة، ابتكر لوين «نظرية المجال» التي تدرس أنماط التفاعل بين الفرد وبيئته، وتسبر أغوار القوى المؤثرة أثناء التحول.. مميزاً بين قوتين متعارضتين: قوى مساعدة وأخرى معرقلة. وضع لوين نموذجاً للتغيير كمرشد لنجاحه لأية مؤسسة، تتمثل في ثلاث مراحل إجرائية. الأولى كسر الجمود عبر الاقتناع بضرورة التغيير. الثانية البدء بإجراء التغيير الذي سيمر بارتباك خلال تفكيك الأساليب القديمة. الثالثة تثبيت الوضع الجديد.
كل هذه المراحل صعبة ومؤلمة نتيجة إعادة بناء ما اعتاد عليه الموظفون، إنما المرحلة الأولى تُعَد أصعبها حيث النفس البشرية تقاوم ما ألفته من روتين يومي، لذا فهي تتطلب حرصاً في التهيئة والتجهيز النفسي للموظفين. قلت ذلك لأحد المسؤولين فقال: «يا أخي، أنا ليس طبيباً نفسياً أعالج عقد الموظفين المتحجرين، وهذه النظرية لا تصلح لنا!»،
أما لوين فيرى أن التهيئة النفسية ضرورية للتحول في أية مؤسسة، ويمكن أن تتم عبر إيجاد مناخ ملائم للتغيير ليثق الموظفون بهذا التحول، وذلك عبر التواصل معهم في أجواء ودية، وإشعارهم بأهمية آرائهم مع إقناعهم بضرورة التغيير، وإشراكهم بفاعلية في النقاشات أثناء وضع خطة التحول ودعمهم نفسياً لإزالة التوتر لديهم..
لقد جرب لوين نموذجه أثناء الحرب العالمية الثانية عند ظهور نقص في الأغذية بإقناع الأمهات باستخدام المنتجات الحيوانية الثانوية كالكرش والمصارين والكلي والكبد.. حيث كانت تُعَد منتجات للطبقة الفقيرة. وزارة الزراعة الأمريكية دعت لوين لمساعدتها في إقناع الأمهات باستخدام هذه المنتجات. وخلال لقاءاته معهن أدرك لوين القوتين المساعدة والمعرقلة. القوى المساعدة بأن هذه المنتجات عالية البروتين وتخفف من أزمة الغذاء، والمعرقلة أن الثقافة الاجتماعية آنذاك تعتبر هذه المنتجات غير مناسبة غذائياً ومعيبة للطبقة الوسطى. قسم لوين مجموعتين من الأمهات لاكتشاف أفضل طريقة للشروع في التغيير. المجموعة الأولى قيل لها تكراراً أنّ هذه المنتجات مغذية وصحية وتخفف من أزمة الغذاء، والثانية شاركن في حلقة نقاش هذه الأفكار. النتائج كانت مشجعة في المجموعة الثانية، على عكس الأولى.
في المرحلة الثانية للتحول يتخوف الموظفون أثناء تطبيقهم للنظام الجديد من الفشل وما يتطلبه من مهارات جديدة. في هذه الحالة لا بد للمسؤول القيادي أن يخفف قلقهم بدعمهم وإعطائهم معلومات جديدة تنقصهم وتخليصهم من المعوقات.. لا بد أيضاً أن يكون النمط الجديد متوافقاً مع بيئتهم التقنية والعملية والثقافية. المرحلة الأخيرة حين يكتمل تنفيذ الخطة الجديدة، يجب أن تكون جزءاً من ثقافة المؤسسة لتنجح؛ أي أن الأفكار والإجراءات والسلوكيات الجديدة ينبغي أن تصبح روتينية. يمكن للإدارة أن تساعد في تثبيت التغيير عبر توضيح هذه التطبيقات الجديدة للموظفين بأن تكشف لهم منافعها تطبيقياً لتوفر لهم شعوراً إيجابياً بتنفيذها.. ويمكن أن يتم ذلك بالمكافآت وتوفير دورات تدريب لمهارات جديدة..
الاسترشاد بنموذج لوين أثناء التغيير طبّقته العديد من المؤسسات. خذ مثلاً، شركة الخطوط الجوية كونتينانتل كادت تشهر إفلاسها في التسعينات، لكن إدارتها طرحت تغيراً جذرياً في عملها: لقد حولت تركيز الشركة من تقليل الخسائر على الطريقة السابقة إلى تحسين الجودة نوعياً لترضي الزبائن. قررت الإدارة مكافأة الموظفين لتطبيق السياسة الجديدة إذا تمكنوا من رفع درجة شركتهم ضمن أفضل خمس شركات طيران في تصنيف وزارة المواصلات. تطبيق نموذج لوين رفع هذه الشركة من كونها أحد أضعف الشركات أداء إلى تسميتها خطوط طيران السنة في أمريكا!
الخلاصة أن التواصل الودي مع الموظفين أثناء التغيير يهيئ بيئة إيجابية لإزالة توترهم من خلال تعبيرهم عما يساورهم من قلق وإجلاء غموض فهمهم لهذا التغيير. يبدو أنّ القائمين على مناقشات برنامج التحول الوطني يدركون ذلك ويمارسونه بفاعلية. إنما العديد من مؤسسات الدولة التي تريد التحول من الخطة القديمة هي نفسها لم تتحول في أسلوب الإقناع، ولا زالت على أسلوب ندوة أو ندوتين لتوضيح الخطة الجديدة للموظفين بطريقة الإبلاغ القديمة دون تحضير مسبق أو حوار بنّاء، فضلاً عن مشورة.. ففي نهاية المطاف هؤلاء الموظفون هم من سيطبق البرنامج الجديد أو يعرقله وقد يصبح البرنامج «كالغراب الذي ضيَّع مشيته ومشية الحمامة.»