د.عبد الرحمن الحبيب
رغم التقدم البشري بكافة المجالات فالفجوة تتسع بين الأثرياء ومحدودي الدخل في أغلب بلدان العالم.. مما يمثل سوءاً لتوزيع الثروة وتراجعاً للعدالة الاجتماعية والقيم التي تستند عليها من جدارة ومنافسة عادلة وتكافؤ الفرص.. وخطورته على الاستقرار داخل الدول وبينها..
لماذا تزداد هذه الفجوة؟ يجيب على ذلك كتاب «رأس المال بالقرن الحادي والعشرين» لتوماس بيكتي، بأن السبب هو زيادة عائد رأس المال على نمو الاقتصاد والدخل.. فتميل الثروة للتراكم أسرع كثيراً من العمل. أي أن معدل العائد من رأس المال (أرباح الأسهم والفوائد والإيجارات واستثمارات مالية طويلة الأجل، والإيرادات الأخرى) أعلى من معدل نمو الاقتصاد (الدخل والناتج)، مما يؤدي إلى تراكم الثروة الموروثة فتنمو أعلى من الناتج وأجور العمل.. سينتج عن ذلك: تزايد تفوق رأس المال المالي على رأس المال البشري، ومزيداً من حصة الأثرياء على حساب حصة البقية في الدخل القومي.. ومزيداً من تفوق العلاقات الشخصية على الجدارة.. مزيداً من أرصدة كبار المديرين على حساب الموظفين المهرة.. وفي نهاية المطاف مزيداً من الإجحاف في توزيع الثروة والدخل..
ومن هنا فإن رجل الأعمال سيميل ليصبح ريعياً، ويهيمن أكثر فأكثر على أولئك الذين لا يملكون شيئاً سوى عملهم. وبهذه الطريقة، يستنسخ رأس المال نفسه بشكل أسرع من زيادة الناتج. هذا ما حدث في القرن التاسع عشر مع الثورة الصناعية حين كانت أرباح الصناعة للرأسماليين تنمو بسرعة بينما دخول العمال راكدة وأحوالهم تزداد بؤساً.. مما أدى إلى عدم مساواة تعسفي وقاد إلى ثورات 1848 التي هزت أوروبا. عشيتها نشر كارل ماركس «البيان الشيوعي» المشهور الذي جاء بمقدمته: «شبح يطارد أوروبا، إنه شبح الشيوعية»؛ وأصدر كتابه «رأس المال» عام 1867 متوقعاً أن أزمة الرأسمالية الصناعية اكتملت، والوضع المأساوي للطبقة العاملة سيقود إلى ثورتها وانتصارها الحتمي..
لكن مع بدايات القرن العشرين تحسن النمو الاقتصادي وانخفض التفاوت في الدخل بين الطبقة العليا والبقية حتى منتصف القرن العشرين. حينها ظهرت نظرية كوزنتس «المنظر الرأسمالي الأمريكي» عام 1955، بأن التفاوت في الدخل سيتقلص مع تقدم مراحل نمو رأس المال، وبالنهاية سيستقر عند مستوى مقبول. بالفعل استمر تحسن النمو الاقتصادي وانخفض تفاوت الدخل بين الطبقة العليا والبقية حتى سبعينات القرن العشرين. إنما التفاوت عاد للارتفاع التدريجي منذ الثمانينات، حتى بلغ حالياً ما كان عليه في بدايات القرن العشرين!
ما الذي يقارب ويباعد بين الطبقة العليا والبقية؟ أهم الآليات التي تدفع نحو التقارب في توزيع الثروة والدخل، تتأثر أساساً بانتشار المعرفة والاستثمار في التدريب والمهارات، وقانون العرض والطلب. كما أن تكنولوجيا الإنتاج واقتصاد المعرفة تمنح مجالاً لمهارات فئات من العاملين، مما يجعل مشاركتهم في الدخل تزيد، بينما مشاركة رأس المال تنخفض..
لكن ثمة آليات أقوى تدفع للتباعد مرتبطة أساساً بعملية تراكم وتركيز الثروة عندما يكون معدل النمو الاقتصادي (الدخل والناتج) ضعيفاً، بينما عائد رأس المال عالٍ. توضح بيانات القرن العشرين أن التفاوت في الدخل (نسبة مشاركة الـ 10 % الأعلى دخلاً بالاقتصاد الوطني) تقلص في أمريكا من 50 % بداية القرن حتى وصل بالأربعينات إلى 30 %، واستمر بهذا النحو حتى السبعينات، لكنه عاد بالثمانينات يرتفع تدريجياً حتى بلغ عام 2008 نحو 50 %. في الدول الغربية الأخرى واليابان كان التوجه مشابهاً. هذا توجه خطير يعكس ابتعاداً كبيراً للأثرياء عن العاملين، وفصلاً حاداً لطبقة كبار المدراء في الشركات الكبرى عن بقية الموظفين.
الآن، يبدو أن قوى التباعد أصبحت ظاهرة عالمية، كما تشير الدراسات والأرقام التي تم استعراضها بالمقالين الفائتين. فما هي مآلات ذلك؟ المرجح، حسب الدراسات، أن يزداد التفاوت في توزيع الثروة إلى مستويات عالية؛ فالمتوقع أنّ الثروة الموروثة ستنمو أسرع من الناتج والدخل. ولأن العائد من الثروة أكبر من عائد العمل، فالذين يرثون الثروة سيوفرون جزءاً من رأسمالهم لينمو أسرع من الاقتصاد ككل.. والحالة يمكن أن تتفاقم عبر قانون الندرة لريكاردو: السعر العالي للأراضي أو المنتجات الريعية سيسهم في بنية التباعد.
فكيف الخروج من هذا المأزق؟ لا يوجد حل سهل، يقول بيكتي.. يمكن تشجيع نمو الاقتصاد عبر الاستثمار بالتعليم والمعرفة والتكنولوجيا، هذا يناسب دول الاقتصاديات النامية، لكنه لن يرفع النمو أكثر من 2 % للدول المتقدمة بينما معدل عائد رأس المال سيبقى بنحو 5 %. الحل الأنسب هو الضريبة التصاعدية (زيادة الضريبة بزيادة الثروة) التي تحافظ على المنافسة والحوافز للحالات الجديدة من التراكم الأولي للثروة. المشكلة هي أن الضريبة التصاعدية تتطلب تعاوناً دولياً واندماجاً سياسياً إقليمياً، فهي ليست بمتناول الدول الوطنية، لأن رؤوس الأموال ستهرب منها.
في السعودية الاقتصاد ريعي (من النفط) بالأساس، ولا توجد ضرائب بل يلعب نمط دولة الرفاه الدور الأساسي حيث تقوم الحكومة بالحماية والدعم لتوفير الرفاه الاقتصادي للجميع. هناك أثرياء وشركات وبنوك تربح المليارات ولا تقدم شيئاً يذكر للمواطنين أو لخزينة الدولة عدا الزكاة وأعمالها الخيرية الاختيارية.. هذا يذكرنا بما سبق أن قاله الأمير مقرن بن عبد العزيز عن البنوك: «أنا أسميها بالمنشار داخل ياكل طالع ياكل، وهي مقلّة في أشياء كثيرة وعطاؤها قليل مقابل ما تستفيده من المواطنين والدولة». قبل ثلاثة أعوام ذكر وزير الاقتصاد السعودي «أن الدعم الحكومي الواسع والشركات المملوكة للدولة تشويه الاقتصاد».
الدعم الحكومي الشامل بلا تحديد يثقل كاهل الدولة بمصاريف تؤدي لعجز بالميزانية مما يعيق نمو الاقتصاد وتبذير في الإنفاق، في حين أن المستفيد الأكبر ليست الشرائح المحتاجة بل كبرى الشركات والبنوك والأغنياء غير المحتاجين للدعم.. لذا ينبغي مراجعة طرق الدعم ومستوى الإنفاق.. مثلاً عبر التحول من الدعم الشامل إلى دعم نوعي محدد للشرائح المنخفضة الدخل، كنظام الكوبونات وشرائح الفواتير، والمعونات النقدية المباشرة، وغير ذلك من أساليب.. كذلك مراجعة نظام مساهمة الأثرياء والشركات والبنوك من مساهمة اختيارية إلى اجبارية مقتطعة من أرباحهم المليارية، واستخدام الفائض المالي منها لتحفيز النمو الاقتصادي ودعم الضمان الاجتماعي.. وهذا ما نأمل أنه أحد توجهات برنامج «التحول الوطني» طالما أن العدالة الاجتماعية هي إحدى مكوناته الرئيسية..