د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
لا أتحدث عن التخصيص بمعناه الضيّق، وهو نقل إدارة أو ملكية الخدمات الطبية إلى القطاع الخاص، بل بمعناه الواسع، وهو الشراكة بين القطاع الصحي العام والقطاع الخاص بنسبٍ متفاوتة في تقديم الرعاية الصحية لأفراد المجتمع، إمّا بشكل ينفرد فيه كل قطاع بتقديم الخدمة في حال من الجوار (أي مثل جارين قد يحتاج كلّ منهما
للآخر عند الحاجة). وقد يتبنى القطاع العام جزئياً أو كلّياً النمط الإداري للقطاع الخاص. وبناءً على هذا المفهوم فإن التخصيص يكون موجوداً على الأقلّ بمقدار ما يشغله القطاع الخاص من حجم في مجال توفير الخدمات الصحية. والشكل الآخر من الشراكة هو تنظيم الخدمات الصحية بحيث يتخلّى القطاع العام جزئياً أو كلّياً عن إدارة الخدمات أو ملكيّتها للقطاع الخاص.
تطور العلاقة بين القطاعين
في نظام مصلحة الصحة العامة والإسعاف (عام 1345هـ) يجب أن يدفع الموسِرون قيمة الأدوية وأجرة العمليات للمستشفى، وتقيّد كإيرادات. وفى عام (1347هـ) أجاز مجلس الشورى الممارسة الحرة للطبيب وحكيم الأسنان والصيدلي والمولِّدة، وفى عام (1354هـ) صدر نظام ممارسة الطب الحر. وأجاز نظام استخدام الموظفين الصحيين (عام 1365هـ) للأطباء وأطباء الأسنان والبياطرة والقابلات والمختصّين في المختبرات الطبية فتح عيادات خاصة خارج وقت الدوام الرسمي. واستمرّ الجمع بين العمل الحكومي والعمل بالعيادات الخاصة قائماً حتى عام 1392هـ، حين صدر قرار تفرغ الأطباء (سعوديين وأجانب) للعمل الحكومي. وبلا ريب فقد استفاد القطاع الصحي الخاص من هذا القرار، حيث انزاحت عنه منافسة أطباء القطاع الحكومي. وبالنسبة للمستشفيات الخاصة فقد كان يوجد مستشفيان في جدة عام 1375هـ.. وبعد عشرين عاماً صار يوجد بالمملكـة (19) مستشفى تمثّل أسرّتها (12 %) من الأسّرة بالمملكة، وفى العام نفسه قرّرت الدولة منح القطاع الخاص قروضاً ميسّرة بحدٍّ أقصى خمسين مليون ريال لإنشاء وتجهيز المستشفيات.. ومع دخول البلاد في طفرة اقتصادية بعد عام 1395هـ تبعها جلب أعداد غفيرة من العمالة الوافدة، اتسع الاستثمار في بناء المستشفيات الخاصة، فبلغ عددها عام 1404هـ(31)مستشفى مع بقاء نسبة الأسرّة (12 %) بسبب نموّ قطاع الصحة الحكومي. وفى عام 1420هـ ارتفع عدد المستشفيات الخاصة إلى (91) مستشفى وزادت نسبة أسرّتها إلى (20 %) من الأسرّة بالمملكة. أمّا نسبة عدد زيارات المراجعين في العيادات والمستوصفات والعيادات الخارجية للمستشفيات الخاصة إلى مجموع الزيارات في كل القطاعات الصحية بالمملكة فزادت من (10 %) عام 1407هـ إلى (20 %) عام 1420هـ. ويعود نموّ خدمات القطاع الصحي الخاص إلى:
* تخفيض اعتمادات المشاريع والوظائف بالقطاع الصحي الحكومي خلال حقبة انحدار سعر النفط (1404هـ -1417هـ).
* ازدياد عدد السعوديين المراجعين للقطاع الصحي الخاص بسبب:
- خفض اعتمادات عقود شركات التشغيل وضعف مستوي أدائها.
- تطبيق نظام الإحالة من المركز الصحي إلى المستشفى منذ عام 1405هـ.
- زيادة المراكز الصحية بعد تطبيق نظام الإحالة - بإمكانات مادية وبشرية ضعيفة.
- تعميم وزارة الصحة عام 1414هـ الذي لا يجيز لمستشفيات الوزارة قبول مراجعة العمالة الوافدة بالشركات في المدن التي يوجد بها مستشفيات خاصة.
- استيعاب المرافق الطبية الخاصة لزيادة الطلب بسبب انتشارها في المدن وتوفيرها لعمالة أعلى تأهيلاً من عمالة مركز صحي.
نماذج وأشكال من التخصيص الجزئي:
* التوسع في الخدمات الصحية الحكومية المصحوب بقلّة القوى الوطنية المؤهلة ألجأ الدولة منذ عام 1400هـ إلى التعاقد مع الشركات لتشغيل مرافقها الصحية جزئياً أو كلّياً. في عام 1417 كانت 40 % من مستشفيات وزارة الصحة تُشغّل بالكامل من الشركات، والباقي يُشغّل جزئياً بعقود للتغذية وعقود للصيانة والنظافة تُبرم أيضاً للمرافق الأخرى. والنمط التشغيليّ نفسه يُطبق في المرافق الطبية الحكومية الأخرى.
* على خلفية ما لوحظ من ضعف في أداء شركات التشغيل مع ثبات أرباحها اتجهت القيادات الصحية والإدارية السعودية بدعمٍ من وزارة المالية إلى الحلول محلّ الشركات وتشغيل المستشفيات ذاتياً بأساليب الإدارة المرنة - أي تخصيص الإدارة.. ولم يكن ترشيد وخفض التكاليف هدفه الأساس، بل تدوير أرباح الشركات لتطوير الخدمات في المستشفى وإدارته بأقلّ ما يمكن من البيروقراطية. وبقيت رواتب الموظفين كما كانت في عقود الشركات، ممّا أثار انتقاد وزارة المالية، لأن كبار الإداريين يتقاضون ضعف رواتب نظرائهم في دوائر الحكومة.
* تعاقدت وزارة الصحة مع وكلاء الأجهزة الطبية على استئجار أجهزة ثمينة وتشغيلها وصيانتها لمدة خمس سنوات.
* وافقت وزارة المالية على أن تحجز وزارة الصحة ما لا يزيد على 5 % من أسرّة المستشفى الخاص سنوياً لاستعمالها عند عدم شغور أسرّة بمستشفيات الوزارة.
تقوم وزارة الصحة منذ أعوام بدفع نفقات علاج الحالات الإسعافية في مستشفيات القطاع الخاص وإقامتها مدة (24) ساعة، ثمّ تحال إلى المستشفى الحكومي، إلا إذا تعذر توفير سرير شاغر.
كما تقوم الوزارة نفسها بإحالة الحالات الطارئة التي تصل إلى مستشفياتها ولا يتوافر سرير لتنويمها.
* تتعاقد الخدمات الطبية الحكومية الأخرى عند نقص الأسرّة مع مستشفيات خاصة لتنويم مرضاها أو لحالات الولادة الطبيعية.
* يُعالج في القطاع الصحي الخاص ما يقارب 16% من مرضى الفشل الكلوي في المملكة البالغ عددهم (14700).
...... يتبع