د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
عامّة المسلمين يقرءون قول الله تعالى في محكم تنزيله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا (3 سورة المائدة)، فيعرفون أنه دين تامّ لا يحتاج لزيادة أو تعديل،
وأنه دين واحد لا تنفصم عُراه ولكنه يستوعب الاختلافات المذهبية والاجتهادات التي لا تجاوز ثوابت العقيدة والأحكام والمقاصد الشرعية. إلا أن العقل البشري في كثير من الأحيان يتأثّر في تمثّله لتعاليم الدين بالثقافة السائدة في مجتمعه مثل العادات أو الأعراف الاجتماعية أو الذاكرة التاريخية وما يصاحب ذلك من ميول عاطفية قد تقوَى فتعمى البصيرة عن اتباع المعاني الصحيحة لتلك التعاليم، وقد تصبح هي نفسها مآرب مغرضة ينشأ عنها سوء استخدام للدين.
ويختلف هذا عن سوء الفهم لمقاصد الشريعة - مثل ما نراه أحياناً من غلظة وتشدّد وتطبيق مبالغ فيه لسدّ الذريعة واستخدام للعنف في ملاحقة مخالفات إمّا أنها ليست حراماً متفقاً عليه أو أنها متوهّمة من جراء الحكم على النوايا، أو ما نراه من إجحاف في بعض حالات من قضايا الحقوق مثل النفقة وما يسمّى بحفظ النسب على حساب الأطفال والزوجة، ونحو ذلك من القضايا. ومثل هذه الحالات الفردية من سوء الفهم قابلة للإصلاح من خلال أنظمة تصدرها الدولة، أما الذين يسيئون استخدام الدين فهم أولئك الذين يتخذونه مطيّة لتحقيق أغراض غير دينية - طائفية أو عرقية أو سياسية - حتى لو كان لهم معتقدات مذهبية يرون أنه لا يمكن لها أن تسود إلا بالعنف والسلطان، لأنهم بذلك يتبعون ما نهى الله عنه، بأنه لا إكراه في الدين بعد أن تبيّن الرشد من الغيّ. إن سوء استخدام الدين تشهد به الوقائع التاريخية وحالة أوطان المسلمين اليوم، فكأن التاريخ يعيد نفسه. ففي العصر الأول من الإسلام قامت فتنتان كلٌّ منهما تلتحف بغطاء ديني: الأولى فتنة الخوارج، بخروجهم على الإمام علي بن أبى طالب -رضي الله عنه- بحجة نزوله على حكم أبى موسى الأشعري وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما- في موقعة صفّين، ولم ينزل على حكم الله - في زعمهم- ثُمّ قيامهم بجريمة اغتيال الإمام علي: (الحاكمية الأولى). والفتنة الأخرى هي التي أوقدها الزاعمون بأنهم شيعة عليّ في الكوفة بدفع الحسين بن علي -رضي الله عنه- للقدوم للكوفة وإعلان الحرب على يزيد بن معاوية لاسترداد حق آل البيت في الخلافة، المبنيّ -حسب ما فهموه- على حقهم في الإمامة الذي منحه جدّهم رسول الله لعلي بن أبى طالب في أثناء توقفه في (غدير خُم) بعد العودة من غزوة تبوك، وانتهى الأمر باستشهاد الحسين بن علي، لأن شيعته تفرّقوا عنه. وبقي الندم على الخيانة والشعور بالظلم في نفوس عامّة الشيعة، أما زعماؤهم -وهم غالباً ليسوا من آل البيت- فقد بنَوا على هذه المشاعر وجعلوها وقوداً لحروب طائفية سياسية تحت غطاء المطالبة بحق الخلافة. هذا بالرغم من أن مؤسّس الفكر الشيعي (الإمام محمد الباقر - توفي عام 122هـ) كان يؤكد فقط حق آل البيت في تولّي الإمامة باعتبارها إمامة دينية موروثة ليست الخلافة من أغراضها - (كما في كتاب الفكر الشيعي المبكر لمؤلفته الرزينة لالاني، دار الساقي 2004). وسار على هذا النهج ابنه الإمام جعفر الصادق. ومع ذلك قامت فتنٌوثورات تستغلّ دعوى إرث الإمامة للوصول إلى الحكم وإنشاء دول طائفية متسلّطة - مثل الدولة البويهية في العراق والدولة الفاطمية في المغرب ومصر ودولة القرامطة في الجزيرة العربية، ثم الدولة الصفوية في إيران، ورافق نشوء هذه الدول حملات غزو وحروب قبل أن تستقر وتحكم. لكنّ جمهورية إيران الإسلامية نشأت عام 1979هـ بفعل ثورة داخلية قام بها ناقمون على حكم الشاه من وطنيين وطلاب ورجال دين (الملالي) وتزعّمها آية الله الخميني الذي كان يريدها دولة قائمة على أساس مذهبي طائفي، يجمع بين السلطة الدينية والزمنية، مثل الكنيسة الكاثوليكية في روما قبل عصر التنوير الأوروبي. لذلك ابتكر الخميني نظرية الوليّ الفقيه الذي ينوب عن الإمام الثاني عشر الغائب إلى حين ظهوره.
وهكذا استخدم الخميني المذهب الديني ليسوّغ الجمع بين الولاية (الحكم) والإمامة (الفقيه)، ودعّم ذلك بإقصاء جميع مناوئيه بأسلوب دموي. وضمّن الدستور مادّة تنصّ على أن المذهب الجعفري الإثني عشري هو مذهب الدولة الوحيد إلى الأبد. وبعد إحكام السيطرة بدأ الغزو الفكري (والأصح المذهبي) لديار الإسلام بإعلان مبدأ تصدير الثورة الإسلامية سياسة راسخة، ممّا يوحي بأنه لم يرض بالإسلام الذي ارتضاه الله والذي يدين به عامّة المسلمين، بل يريد الإسلام الخاضع لولاية الفقيه. ولم يوفّر جهداً في هذا السبيل، فعزّز الغزو الفكري بزرع خلايا إرهابية في أقطار الخليج وأحزاب طائفية في لبنان واليمن والعراق. إلا أن الغزو الفعلي هو ما نشاهده اليوم من ميليشيات إيرانية وضباط من الحرس الثوري وأسلحة من كل نوع في سوريا لمساندة نظامها الحاكم في تدمير البلد وتقتيل وتشريد أهله، وفى العراق دعم الميليشيات الطائفية فيه، لأن السيطرة الفكرية (المذهبية) فتحت شهية حكام إيران لتحقيق حلم الدولة الإمبراطورية. على هذا النحو أسيء استخدام الدين مرتين: مرة باستخدام التسلط والعنف لنشر وهيمنة مذهب واحد معيّن، ومرة باستخدام هذا المذهب لغرض تحقيق الهيمنة الإقليمية. دعوى (الحاكمية الثانية) ظهرت في كتب سيّد قطب الذي كفّر الحكومات الإسلامية لأنها لا تطبق الشرع كما أنزله الله ولأنها توالي حكومات الغرب، فهي غير مؤهّلة لحكم المسلمين. وقامت هذه النظرية بدور المسوّغ الشرعي لدعوة حسن البنا السياسية إلى إصلاح حال أمّة الإسلام بإقامة دولة الخلافة الإسلامية، وكان أنشأ عام 1928 حركة الإخوان المسلمين -التي ساعدت الظروف السائدة آنذاك على تقبّلها- ولاسيّما انهيار الخلافة العثمانية وتسلّط الدول الاستعمارية وتغلغل الثقافة والأخلاقيات الغربية. ولم تدخل أول أمرها في نشاط سياسي إلا بعد مشاركتها في التظاهر ضد الإنجليز وفى حرب فلسطين ونقدها للحكومة ممّا جعلها تشكّل تنظيماً سرياً مسلّحاً نفّذ عدّة اغتيالات، أمّا حسن البنا نفسه فقد اغتيل (عام 1949). ولم يكن غريباً أن ينشأ صراع بين حركة الإخوان في مصر وفروعها أو الحركات التي قامت على منوالها في دول إسلامية أخرى وبين الحكومات بتلك الدول، لأن هدفها الرئيسي هو توحيد الأمة الإسلامية في دولة للخلافة تحلّ محلّ الدول الوطنية - أي أن بذرة الصراع مغروسة في أهمّ مبادئها. لذلك تُحارَب حين تنشط تنظيماتها- كما حصل بمصبعد الثورة (مثلا الخلاف مع عبد الناصر، ثُمّ محاولة اغتياله في 1954- والحكم بإعدام أو سجن بعض قادتها، ثُم إعدام سيد قطب..الخ). وقد تهادن الحركة السلطة فتغضب بعض التنظيمات، وتنفصل لتشكل تنظيمات متطرفة -كالتكفير والهجرة وغيرها- تقوم باغتيالات بلغت قمّتها باغتيال أنور السادات عام(1981). وبعد طرد السوفييت من أفغانستان، انضمّت مع بعض (الأفغان العرب) إلى تنظيم القاعدة الذي أساء استخدام الغرض الديني للجهاد -وهو دفع العدوان الظالم على الإسلام وأهله- فجعله غرضاً سياسياً، هو إرهاب المسلمين في ديارهم وإثارة الحقد والضغائن ضدّ الإسلام من خلال الاعتداء على من لا يقاتلون المسلمين، وتهديد نُظم الحكم من خلال خلايا القاعدة التي نشطت -ولا تزال- في عدد من الدول الإسلامية.
ولا يعتبر كل تنظيم سنّي متطرف خارجاً من رحم الإخوان المسلمين، لكن بعضها قد يتغذّى من طعام الآخر، وتلتقي مثل هذه التنظيمات المحسوبة على السنة في أمرين هما: تكفير الحكومات الإسلامية والعمل على إنشاء دولة الخلافة الإسلامية بشتى الوسائل التي تراها محققة لغرضها. لكنّ القاعدة فرّخت تنظيماً أشدّ تطرفاً وإرهاباً في العراق وسوريا، هو تنظيم داعش الذي سهّل نشوءَه وتمدّدَه ظروف الحرب في سوريا وطائفية الحكم في العراق وصراع الفرقاء في ليبيا، وفاق التنظيمات الإرهابية بوحشية القتل والعقاب وسبي النساء، وتكفيره للحكومات ولكل مسلم لا ينصاع لتعاليمه، (وفى ذلك يجاريه بوكو حرام النيجيري). ومن باب السخرية أن يكون لبّ دعوة هذه التنظيمات الإرهابية هو قيام دولة الخلافة الإسلامية، وهو نفسه هدف حركة الإخوان المسلمين.كل هذه التنظيمات مع اختلاف درجة تطرفها وأساليب عملها اتفقت على سوء استخدام الدين لهدف سياسي، فكأنها بذلك حوّلت الإسلام من ذلك الدين الذي ارتضاه الله لعباده إلى سياسة تصنعها تلك التنظيمات. فالتقى التطرف السنّي والتطرف الشيعي في نفق مظلم واحد.
والله المستعان على ما يصفون.