د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
مع صدور تنظيم هيئة توليد الوظائف ومكافحة البطالة والإعلان في وقت متزامن تقريباً عن برنامج التحوّل الوطني الذي يتبناه مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة سموّ وليّ وليّ العهد وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان تصبح قضية السعودة والبطالة - وهي قضية الساعة الآن وفي
المستقبل - ملحّة أكثر من ذي قبل، لأنهما يقرّبان الوصول إلى هدف موحّد هو زيادة نسبة السعودة المؤدّية إلى خفض نسبة البطالة. فقد ثبت أن الاعتقاد بأن خفض نسبة البطالة يعني زيادة السعودة. مقياسٌ إحصائيّ كمّيّ خادع. فحسب بيانات وزارة العمل 90 % من قوّة العمل المشتغلة في القطاع الخاص هم من الوافدين، أي أن نسبة السعودة متدنية جداً، ومن ثَمّ نقنع أنفسنا بأنه بتطبيق نظام نطاقات، ستزيد نسبة السعودة في القطاع الخاص وتنخفض نسبة البطالة، ولكنه لم يؤدِّ إلى شيء من ذلك. فالسعودة لم تزِد، لأن كثيراً من أصحاب العمل تحايل على (نطاقات) بتوظيف أفراد على الورق من الأقارب أو مقابل مبالغ زهيدة بدون ممارسة أيّ عمل ولم يحلوا محل وافدين، بل صاروا مسوّغاً لاستقدام وافدين جدد: (سعودة وهمية). وربما يكون من الإنصاف لو تمّ استبعاد نسبة العمالة الوافدة التي تمارس أعمالاً لايقبلها المواطن في الوقت الحاضر وهي الخدمة المنزلية وأعمال النظافة، وهي في مجموعها تتجاوز بالتأكيد المليونين. أما البطالة فظلّت على حالها (11.7 %)، لأن العدد الذي تّمّ تشغيله ضاع في زحمة الداخلين الجدد في سوق العمل. واذا كانت البيانات صحيحة، فعدد العاطلين عن العمل لا يتجاوز ستمائة ألف مواطن ومواطنة (مع أن الذين تمّ تسجيلهم في حافز يبلغ المليون !). والحجة المتكرّرة في القطاع الخاص - لا سيّما رجال الأعمال والصناعة والمؤسسات الصغيرة - لعدم تشغيلهم هي أنهم غير مؤهلين بما يكفي لمتطلبات سوق العمل، وهذه حجة يمكن التغلّب عليها بتوفير برامج التدريب وإعادة التأهيل. لكنّ ما يهمّ القطاع الخاص هو أن أجور السعوديين أعلى وإنتاجيتهم أقلّ - بمقياس ساعات العمل والانضباط. وكما كتب أحد الباحثين الاقتصاديين ذات مرة: إن صاحب العمل قد يتساءل لماذا أوظف سعودياً واحداً، إذا كنت أوظف براتبه أربعة عمال وافدين. وهذا القول من أصحاب العمل يجد تصديقاً له من موقف الباحثين عن العمل. في مناسبة ما قال أحد رجال الصناعة المعدنية إنه يحاول جادّاً أن يوظف سعوديين، ولكنهم إمّا لا يأتون أو إن أتوا لا يمكثون، وأوضح أنه لا يملك ما يغري، لا من حيث الراتب المجزي ولا ظروف العمل أو مزايا السكن. وعلى نقيض ذلك ذكر أحد المشاركين أن شركة الغاز والتصنيع الأهلية وظّفت منذ سنوات عدداً كبيراً من السعوديين في وظائفها التشغيلية والإدارية حتى وصلت نسبة 80 %، ولكنها أيضاً وفّرت رواتب وبية عمل مناسبة وأماناً وظيفياً (نسبياً). ولا شك أن السعودة في قطاعات مثل البنوك وشركات أرامكو وسابك تسير بشكل أفضل لنفس المزايا.
ما دمنا إذن نعرف نفسيّة طالب العمل السعودي ومعايير اختياره، ونعرف أنها نابعة من الثقافة الاجتماعية السائدة التي لا يمكن تغييرها بسهولة، فإن برامج السعودة الجادة ( غير الوهميه) مضطرّة إلى أن تراعي ذلك من خلال انتقاء مجالات السعودة الأكثر قبولاً عند الشباب والأكثر نفعاً للوطن، حتى لو تطلّب ذلك الكثير من برامج التدريب وإعادة التأهيل والكثير من الأموال والجهود اللازمة لذلك - وليس في هذا القول جديد ولا مبالغة، ولا هو يعبّر عن عاطفة، لأن كل ما يبذل في هذا السبيل سيثبت أن له من الجدوى في الحاضر والمستقبل ما يجعله رخيصاً. وفي الجهود التي تبذلها الدولة حالياً من أجل السعودة عدّة نقاطٍ إيجابية هي: أن المؤسسة العامة للتدريب التقني تنتهج أسلوب الشراكة المتمثّل في قيامها بتوفير المعهد أو الكلية وهيئة التدريس والتدريب الجيدة والتعاقد مع شركات إنتاجية محلية لاستيعاب الطلاب للتدريب العملي في منشآتها طوال مدة الدراسة، ومن ثَمّ توظيفهم وفق توزيع معيّن. كما أن المؤسسة ووزارة التعليم سيبدآن تنفيذ خطة إدخال التخصصات المهنية (الفنية) في التعليم الثانوي - وهو برنامج سبق الإعلان عنه قبل عدة أعوام في أثناء تولّي سموّ الأمير خالد الفيصل وزارة التربية والتعليم. وتتولّى المؤسسة ترتيب التدريب العملي الميداني في القطاعات الإنتاجية ذات العلاقه. وسوف يوجد هذا البرنامج مخزوناً بشرياً مؤهلاً لسوق العمل. والنقطة الثالثة الجديرة بالتنويه هي دعم التوجه لإيجاد فرص عمل في قطاع التجزئة توافق الميول الشبابية، مثل قطاع أجهزة الاتصالات الذي يجذب الشباب لأنه مألوف لديهم وزبائنه من الشباب أمثالهم ومجد من حيث الدخل. ثُمّ لا بدّ من التنويه وتأكيد أهمية الجهود المبذولة في تنفيذ برنامج المدن الصناعية - وخاصة توجّه هيئة المدن الصناعية نحو الاستفادة من تجربة الهيئة الملكية للجبيل وينبع التي وفّرت ما يجذب الشباب للعمل في المنشآت والمدن الصناعية التي تشرف عليها، من حيث الخدمات والحوافز المادية والاستقرار السكني والوظيفي وظروف العمل. كل ذلك سيشدّ عشرات الألوف من السعوديين عند توافره في المدن الصناعية، بحيث تصبح هذه المدن حاضنة لمن يتخرجون من المعاهد أو الكليات التقنية أو من طلاب الأقسام المهنية في التعليم الثانوي أو من التخصصات الصناعية في الجامعات. إن ما يلزم تلك الجهود المذكورة هو التوسع في المجال والجدّية في التنفي. فهذا يحقق جزءاً عظيماً من السعودة النوعية الحقيقية التي هي الأمل في أن يحلّ المواطنون محلّ جزءٍ كبير من ملايين العمالة الوافده. ومن شأن ذلك أن يحقق عدة أهداف: تخفيض أعداد العمالة الوافدة (الذين يشكّلون الآن ثلث السكان)، خفض البطالة، واتساع قاعدة الطبقة الوسطى في المجتمع ( مع الشرائح الأخرى مثل المهنيين الصحيين والمعلمين وغيرهم من منسوبي المهن الأخرى)؛ والطبقة الوسطى - كما هو معلوم - هي التي تدير عجلة التطوّر التنموي والاقتصاد الوطني. قبل أكثر من خمسة عشر عاماً أعلنت استراتيجية للنمو الوطني كان من أهدافها تخفيض نسبة الوافدين إلى 20%، لكنه لم يمكن تحقيقها في ظل الاقتصاد الريعي الذي يعتمد على مورد واحد للدخل هو النفط ويشجع على الاستهلاك، ولأن الجهود المذكورة بدأت متأخرة وتسير ببطء. ولذلك فإن برنامج التحوّل الوطني بأهدافه المعلنة هو برنامج للتحول من هذا النمط الريعي الاستهلاكي للاقتصاد إلى اقتصاد منتج متنوّع بما يتطلبه ذلك من ترشيد في الإنفاق وتخصيص لبعض الخدمات وتطوير لأساليب الإدارة والرقابة والتقويم ومناهج التعليم. تعريض قاعدة الإنتاج وتنويع مصادر الدخل سوف يتولّد منهما مئات الآلاف من الوظائف التي تتطلب من جهتها إعداد المواطنين وتأهيلهم لشغلها وأداء واجباتها حقاً وليس اصطفافاً بجانب عمالة وافدة. إن توليد الوظائف (الجديده) مؤشرٌ على النمو وحاجة العمل.