أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الذي يَطَّلِعُ على الْجُزْإِ الثامِنِ مِن كتابِ الإمام أبي محمدٍ ابنِ حَزْمٍ رحمه الله تعالى (الإحكامُ لأصولِ الأحكامِ) عن القياسِ والْعِلَلِ: سَيُلْجِمُهُ البرهانُ - سَوَاءٌ أكان مُسْتَسْلِماً للبراهينِ الْفالِجَةِ، داعِياً لِـمُحِقِّقِها،
أمْ كان مُعانِداً مُكابِراً أسِيراً للهوى والمذاهِب -: وما أَوْرَدْتُه مِن نَقْدٍ أثناء ما مَضَى مِن بحوثي، أَوْ ما سَأُوْرِدُهُ إن شاء الله تعالى، أَوْ ما أَوْرَدَهُ غَيْرِي أَوْ سَيُوْرِدُهُ: لن يَهُزَّ بِمِقْياسِ أَصْغَرِ مِن شَعْرَةٍ عَرْضاً ثِقَلَ بَرَاهِيْنِهِ الْجَلِيَّةِ؛ وإنما هي نَقَدَاتٌ لِاسْتِطْرادَاتٍ جانِبِيَّةٍ من كلامِ ابنِ حزمٍ برهاناً على أنَّ اَلْعِصْمَةِ ليستْ لِبَشَرٍ.. والنَّقْصُ في قُدُرَاتِ الْعَبْقَرِي نِعْمَةٌ من الله تُعِيْذُه من العين!!..
قال الشاعر كشاجم: ما كان أَحْوَجَ ذا الكمالِ إلى عيبٍ يُوَقِّيْهِ مِن الْعَيْنِ..
قال الإمام أبو محمد رحمه الله تعالى م2 ج8/ 93 / تحقيقُ أحمد محمد شاكر، وتقديمُ أستاذي إحسان عباس رحمهم الله تعالى/ دار الآفاق الجديدة ببيروت / طبعتهم الثانية عام 1402هـ: «واحتج بعضهم في إيجاب القول بالعلل، وأنَّ الأحكام إنما وقعت لعللٍ: بأن الأسماء مشتقة في اللغة؛ وهذا لو صحَّ لما كان لهم فيه حجة؛ إذْ لا سببَ في الاشتقاق يُتَوَصَّل به إلى إثبات العلل في الأحكام؛ فكيف وهو باطل ؟..
والاشتقاق الصحيح إنما هو اختراعُ اسمٍ لشيىءٍ ما مأخوذ من صفةٍ فيه كتسمية الأبيضَ من البياضِ، والمصليِّ من الصلاة، والفاسقِ من الفسق، وما أشبه ذلك..
وليس في شيىءٍ من هذا ما يوجب أنْ يُسمَّى أبيضُ ما لا بياضَ فيه، ولا مُصَلِّياً مَن لا يصلي، ولا فاسقاً من لا فسق فيه [أيْ لا فِسْقَ عنده في نِيَّتِهِ، ولا في قولِه، ولا سلوكه]؛ فأيُّ شيىءٍ في هذا مِمَّا يُتُوصَّلُ به إلى إيجابِ القياس، والقولِ بأنَّ البُرَّ إنما حُرِّم أنْ يباع البر متفاضلاً؛ لأنه مأكول، أو لأنه مكيل، أو لأنه مُدَّخَر؟!..
وهل يَتَشَكَّل هذا الحُمْقُ في عقلِ ذي عقلٍ، وبالله تعالى التوفيق..
وأَمَّا ما عدا هذا مِن الاشتقاقِ: فَفاسِدٌ أَلْبَتَّةَ؛ وهو كُلُّ اسمِ عَلَمٍ، وكُلُّ اسمِ جِنْسٍ أَوْ نوعٍ أوْ صِفَةٍ؛ فإنَّ الاشتقاقَ في كلِّ ذلك يَبْطُلُ ببرهانٍ ضَرُوْرِيٍّ؛ وهو أنَّنا نقولُ لِمَنْ قال: (إنَّما سُمِّيَتْ الْخَيْلُّ خَيْلاً لأجْلِ الْخُيَلاءِ التي فيها، وإنما سمي البازيُّ بازياً لارتفاعه، والقارورةُ قارورةً لاستقرار الشيىءِ فيها، والخابية خابية لأنها تُخَبِِّئُ ما فيها: إنه يلزمك في هذا وجهان ضروريان لا انفكاك لك منهما ألبتة: أحدهما: أنْ تُسمِّيَ رأسك خابية؛ لأنَّ دُماغَك مخبوءٌ فيه، وأنْ تسمي الأرضَ خابيةً لأنها تُخَبِِّئُ كل ما فيها، وأن تسمي أنفك بازياً لارتفاعه، وأنْ تسمِّيَ السماء والسحاب بازياً لارتفاعهما، وكذلك القصرُ والجبل، وأنْ تسمِّيَ بطنَك قارورةً لأن مصيرك مستقر به، وأن تسمي البئر قارورة؛ لأن الماء مستقر فيها، وأن تسمي المستكبرين من الناس خيلاً للخيلاء التي فيهم ؟!!..
ومن فَعَل هذا: لَحِقَ بالْمَجانين الْمُتَّخَذْيِنَ لإضحاك سُخَفَاءِ الملوكِ في مجالس الطرب، وصار مَلْهًى وملعباً وضِحْكَةٌ يُتَطَايَبُ بخبره [أيْ يَجِدُ فيهِ سُخَفَاءُ الْمُلُوكِ ما يَطَِيِّبُوْنَ به نفُوْسُهُمْ مِن التَّسَلِّيْ والضَّحِكِ]، وكان بالرحمة ومُداواةِ الدماغ أولى منه بغير ذلك؛ فإن أبى ترك اشتقاقَه الفاسد..
والوجهُ الثاني: أنْ يقال إن اشتققت الخيل من الخيل أو القارورة من الاستقرار والخابية من الخبءِ ؟..
فمن أي شيئ اشتققت الخيلاء والاستقرار والخبءِ؛ وهذا يقتقضي الدور الذي لا ينفك منه؛ وهو أن يكون كل واحد منهما اشتُقَّ من صاحبه؛ وهذا جنون، أو وجود أشياء لا أوائل لها ولا نهاية؛ وهذا مخرج إلى الكفر والقول بأزلية العالم، ومع أنه كفر فهو محال ممتنع».
قال أبو عبدالرحمن: الإمامُ أبو محمدٍ رحمه الله تعالى واسِعُ الاطِّلاعِ على كُتُبِ اللغة مُنْذُ تدوينها إلى ما أُلِّفَ فيها مِمَّا دخَلَ في اْلأَنْدُلُسِ في عهده، وكان مستوعباً كتابَ (السماءُ والعالَمُ)؛ وهو مِئَةُ جُزْءٍ عن أسماءِ الكائناتِ بدلالة اللغة العربية؛ ولكنه رحمه الله تعالى ضَيِّقُ الْعَطَنِ في فهمهِ أُصُوْلَ اللغةِ؛ لأنه وَقَفَ عند ظَوَاهِرِ اللغة، وأَهْمَلَ الْمَعانيَ التي تُفْهَمُ بها مَقاصِدُ اللغة..
خُذْ مثالَ ذلك قَوْلَه: «الاشتقاقُ الصحيحُ: إنما هو اختراعُ اسم..إلخ».
قال أبو عبدالرحمن: لَمْ يُسَمَّ الأبيضُ أَبْيَضَ من البياضِ؛ فالأبيضُ والبياضُ اسْمٌ لِلَّوْنِ الْمَعْرُوْفِ..
إلا أنَّ الأبيضَ اِسْمٌ للواحد، والبياضُ اسمٌ لِلَّوْنِ الذي يكون في الْوَاحِدِ والْمُثَنَّى والجمع والذكرِ والأنْثَى، وفي أنواعِ الأحياءِ والجمادات؛ وقد يكونُ البياضُ مُجَرَّدَ غُرَّةٍ في فَرَسٍ لَوْنها أَحْمَرُ؛ فيكونُ البياضُ فيها بِحَجْمِ رَاحَةِ الْيَدِ..
وقد قلتُ كثيراً، وكتبتُ كثيراً: أنَّ الصِّيَغَ مِثْلَ: فَعْلٍ، وفاعِلٍ، وَفَعَّالٍ، وَمَفْعُوْلٍ..
إلخ: تحويلٌ لِمَعْنَى الْمَادَّة (كالبياضِ ههنا) إلى مَنْ يَتَّصِفُ به كالزُّرْقَةِ في السماءِ، أوْ يَتَّصِفُ بشَيْئ منه كالْغُرَّةِ في الْفَرَسِ الحمراء..
والاشْتِقاقُ ليس هو اِخْتِراعَ اسمٍ؛ لأنَّ كلَّ مُسَمَّى مَعْرُوْفٌ باسْمِهِ؛ ولا اِشْتِقاقَ في الأسماءِ؛ وإنَّما تُحَوَّلُ الأَسْماءُ إلى صِيِغٍ؛ للدلالةِ على الاثنين، والجماعَةِ، والذكر، والأنثَى..
إلخ كما أسْلَفْتُ آنفاً؛ وإنما الاشتقاقُ في معاني الألفاظِ، وليس هو اِخْتِراعاً يكونُ اِفْتِراءً على لُغَةِ العربِ؛ وإنما هو اِشْتِقاقُ مَعْنًى جديدٍ من مَعْنَى اللفظٍ جارٍ على أُسْلُوبِ لُغَةِ العرب كقولِ (بودلير) - وليس هو عَرَبِيّْاً -: (الْحُبُّ شَمْسٌ حمراءُ)؛ فهذا اختراعٌ جديدٌ يَفْرَحُ به اللغويُّ العربيُّ والأديبُ العربيُّ؛ لأنه جارٍ على أسلوب العرب؛ وبيانُ ذلك: أنَّ الْحُبَّ الأصيلَ لا الشَّهْوَةَ التي تَنْطَفِيُ مُنْذُ إشباعِها: ذو حرارةٍ في القلبِ لا تَنْطَفِئُ أبداً؛ بل الْمُحِبُّ يَجِدُ نعيمَهُ في عَذابِه (الحبُّ كلُّ نعيم..
إلى آخِرِ غِناءِ السِّتِّ)..
وَمِثْلُ ذلك وَصْفُ الْقُبْلَةِ فيما تُحْدِثُه من حرارةٍ في القلب بحرارةِ أُصْبُعٍ مِن الْحَوَارِّ الشَّدَيدةِ الحرارة كعِلْبٍ من الْحَوَارِّ تُسَمِّيْهِ العامَّةُ (حِبْحِرْ)؛ فقد أنكر بعضُ الْمُعَمَّمِيْنَ مِن أَئِمَّةِ اللُّغَةِ في مجمع اللغة العربية بالقاهرة هذا المعنى، وقالوا: ليس في لُغَةِ العرب أنَّ لَذَّةِ الْحُبِّ تكونُ حرارةَ (حِبْحِرْ)!!.
قال أبو عبدالرحمن: هذا لا يُطْلَبُ مِن لُغَةِ العرب؛ وإنما يُطْلَبُ مِن إبْداعِ الأذْكِياء، ثم تَحْتَضِنُهُ لُغَةُ العربِ كما يُطْبِقُ الْمُحِبُّ الوامِقُ بِقُبْلَةٍ حارَّةٍ على شَفَتَيْ شريكةِ حياتِه..
غايَةُ ما في الأمْرِ: أنَّ اشتقاقَ الْمَعاني مجازٌ لُغَوِيٌّ أو أدَبِيٌّ، ولُغَةُ العربِ تكونُ فيها أسماءُ الصِّيَغِ مهما تَعَدَّدَتْ واحدةً؛ لأنَّ الْمُراعَى واحِدٌ؛ وهو اسمُ الصِّفَةِ في الْمُسَمَّى كما أسْلَفْتُهُ عن البياض في الأحياء والجمادات والواحد والجماعة..إلخ..
وغايَةُ ما في الأمْرِ أيضاً: أنَّ من الْمَجازِ ما تَكِعُّ عنه ذائقَةُ الأذكياءِ لا لأَنَّ لُغَةِ العربِ تأْباه؛ بلْ لأنَّ الْحِسَّ الجمالِيَّ يَشْمَئِزُّ منه كقول أبي تَمَّامٍ - وهو إمامُ الْمُحْدَثَينَ -: (بُحَّ صَوْتُ الْمَالِ)!!..
ولهذا قيل: (والشاعِرُّ الْبُحْتِرِيُّ)؛ لأنَّ شِعْرَهُ موسِيْقِيُّ يسرحُ بالقلوبِ في أجواءِ (الدَّفْلَجَةِ) الْغِنائيةِ، ولهذا لا تَكادُ تَجِدُ في شعر أبي الطيبِ المتنبي - وهَو إمام الشعراء - ما يَقْبَلُ الألحانَ الْغِنائِيَّةِ.
قال أبو عبدالرحمن: والاستمرار في مناقَشةِ الأمورِ الجانبية من كلام الإمام ابن حزم عن الْمَجاز على نحو ما سَبَق يحتاج إلى رُبْعِ سِفْرٍ؛ فإلى لقاءٍ إنْ شاء الله تعالى مع سَبْتِيَّةِ الأسبوعِ القادِمِ في موضوعٍ آخَرَ، والله المستعان.