د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
لا نحتاج في الواقع إلى وضع نقاط على الحروف لإزالة الغموض عن الهدف الحقيقي لتدخلات إيران في المنطقة العربية بكل أشكالها المتنوعة من رعاية تنظيمات وخلايا إرهابية إلى تسليح وتدريب ميليشيات حزبية إلى دعم حركات وأنشطة متطرفة في الوطن العربي إلى الضلوع
في الحروب المشتعلة بالمنطقة بشكل مباشر أو غير مباشر -كل ذلك تحت غطاء وحدة الانتماء المذهبي، حتى لقد ترسخ الفهم الخاطئ لدى بعض رجال الدين من المذهب السني أن ما يدور في المنطقة من الأحداث هو حرب بين السنة والشيعة- انطلاقاً من الاختلافات المزمنة بين المذهبين. ولكن الحقيقة مغايرة لذلك. فهي إنما ترعى الإرهاب وتثير النزعة الطائفية لكي تستخدمهما وسيلة لإضعاف الشعوب العربية، ومن ثَمّ السيطرة عليها لأغراض لا هي مذهبية ولا دينية، بل لغرض قومي هو بناء إمبراطورية فارسية، تريد أن تقرّب أفراد الطائفة الشيعية في الوطن العربي قرباناً له، فتحرقهم بنار الفتنة التي توقدها بينهم وبين شركائهم وإخوانهم في القربى والدين والوطن. وإيران -إذ تفعل ذلك- تنتهج طرقاً عدٌة:
- من خلال قنوات الإعلام الصحافية والفضائية التي تستخدمها لنشر الآراء والأفكار والفتاوى ذات البعد الطائفي وتجييش العواطف المحمّلة بالكراهية ضدّ دول فيها مواطنون ينتمون للمذهب الشيعي وتصوّرهم بأنهم أقلّية مسلوبة الحقوق وأنها تدافع عن حقوقهم. تغذية الكراهية لا تخدم المذهب الشيعي ولا تجلب السِّلم والرخاء للمنتمين إليه، وإنما توجِد في الأوطان التي يعيشون فيها تربة خصبة للتطرف والتطرف المضاد اللذين هما بذرة الإرهاب.
- لا تترك إيران أيّ حدث مناسب - مثل إعدام الإرهابي نمر النمر ضمن 47 إرهابياً سعودياً لثبوت ارتكابهم جرائم قتل أو تحريض مكشوف على القتل - إلا استغلته لإثارة زوبعة من مظاهرات الحقد والاعتداءات محلّياً و الاحتجاجات والاستعداء خارجياً من أجل تأكيد الزعم أمام المنتمين للمذهب الشيعي خاصة وإيهام دول العالم عامة بأنها هي الحامية لحقوق الأقليات الشيعية - محاولةً أخذ الاعتراف بأهمية دورها كدولة ذات نفوذ.
- لكن عنصرية حكام إيران تمنعهم من منح الشيعة العرب بإيران (عرب الأحواز) حقوق المواطنة الكاملة المسلوبة منهم ضاربة عرض الحائط بانتمائهم للمذهب الشيعي.
- أما الشيعة العرب في الوطن العربي - فإن ولاءهم الوطني وعروبتهم يقفان حجر عثرة أمام مدّ نفوذها وهيمنتها. لذا فإنها تحاول من خلال المرجعيات المتربعة على مركز السلطة والثروة في قم ومشهد التي تؤمن بمذهب شيعي واحد هو الجعفرية الإثني عشريه -ولا شيء غيره كما في الدستور الإيراني- وبنظام ولاية الفقيه الذي ابتدعه الخميني، صرف انتمائهم المذهبي إلى ولاء لتلك المرجعيات، ومن ثَمّ للوليّ الفقيه حاكم إيران، ممّا يلغي الولاء للوطن ويثير الفتنة بين مكوّناته، ويخلق الظروف الملائمة لإنشاء إمبراطورية واسعة النفوذ.
- جعلت جمهورية إيران منذ قيامها من مبادئها الثابتة تصدير (الثورة الإسلامية)، وطبقت ذلك بأساليب مختلفة، منها مثلاً:
- تربية أفراخ لهذه الثورة المزعومة وتعليمهم المذهب الجعفري الإثني عشري بواسطة المرجعيات في إيران وتدريبهم على التنظيم السري وحمل السلاح في أوطانهم - مثل حزب الله في لبنان منذ 1982، الذي طغى وبغى وتحكّم بسلاحه ومجنّديه في مفاصل السلطة بلبنان مستغلّاً شعار المقاومة وحماية نظام الحكم السوري ومن ورائه إيران، ومثل الحوثيين في اليمن (منذ1992) الذين تمرّدوا عام 2009، ثم انقلبوا على السلطة الشرعية عام 2015.
- زرعت خلايا بدول الخليج - في الكويت والبحرين والمملكة - ودربتهم على تنفيذ الاغتيالات والتفجير.
- استغلال موسم الحج لزعزعة أمن الحج بمظاهرات منظمة مسلحة (في حج 1407 مثلاً) أو دفع عملاء لعمل تفجيرات ترعب الحجاج وتشكّكٌ في القدرة على ضبط الأمن.
- التبشير بالمذهب الجعفري الإثني عشري في مجتمعات إسلامية مثل: (السودان- نيجيريا- ماليزيا- مصر)، ومثل ذلك دعاء الحجاج الإيرانيين في مناسك الحج: (لبيك يا حسين) بينما يلبّي الحجاج بدعاء التوحيد: (لبيك اللهم لبيك). وكل ذلك يغذي النزعة الطائفية ويمزّق وحدة الدين.
- ويأتي على قمّة التدخلات المشاركة الفعلية للحرس الثوري في حرب النظام الحاكم السوري ضد شعبه من خلال الميليشيات والتدريب والإمداد بالسلاح، ودعم الحوثيين في اليمن في انقلابهم على السلطة الشرعية بالتدريب والتوجيه والسلاح وقيادة الحشد الشعبي في العراق الذي يمارس تطهيراً طائفياً مستغلاً ظروف الحرب مع داعش.
جميع ما سبق ذكره من التدخلات وصنوف العداوة يتعارض تماماً مع الدين الإسلامي الذي يستوعب الاختلافات المذهبية ولكنه لا يقبل الانشقاق والتجزئة إلى (إسلامات) متحاربة كما يفعل ذلك حكام إيران ويلتقون فيه مع أفعال التنظيمات السّنّية الإرهابية كالقاعدة وداعش، وإن اختلفت الدوافع. وعلى الرغم من تلك التدخلات التي تمسّ دول الخليج أيضا، فإن المملكة لا تتوقّع حدوث حرب مباشرة مع إيران، فذلك يمثّل كارثة حقيقية - كما أوضح سموّ وليّ وليّ العهد وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان لمجلة (الإيكونومست). أمّا إيران -منبع الإرهاب والطائفية- فعليها أن تختار بين منطق الثورة أو منطق الدولة - وفقاً لما قاله معالي وزير الخارجية عادل الجبير خلال انعقاد مجلس التعاون الخليجي في التاسع من يناير الحالي. ولكن هل سيقبل حكام إيران منطق الدولة؟ كيف ذاك! وآخر ما تباهى به أحد قادتهم وهو قائد الحزس الثوري أن إيران دربت مائتي ألف مسلح من أبناء المنطقة، أي أنها فعلاً تنوى أن تقرّب الشيعة العرب قرباناً على معبد أهدافها القومية. ولا يمكن فهم ذلك إلا بافتراض دافعين : الأول ثأري (وليس ثورياً) باستعادة مجد الدولة الكسروية الفارسية الذي أزاله العرب المسلمون؛ والثاني نفسي، بما عرف عن قادة إيران من الشعور بالعظمة الذي يطبع سلوكهم منذ عهد الشاه محمد رضا بهلوي الذي دفع به إلى أن يبدّد موارد إيران في بناء قوة عسكرية مرهوبة، وقام باحتلال جزر الإمارات العربية المتحدة وكرٌر ادّعاء تبعية البحرين لإيران. وزاد عليه حكام إيران الحاليون بتبديد موارد إيران في تنفيذ البرنامج النووي وتدريب وتسليح ميليشيات وخلايا إرهابية في الوطن العربي. سعي إيران لإنشاء دولة فارسية قومية سيصطدم بعدم القبول من الشعب الإيراني نفسه لأنه مكوّن من عدة قوميات منها الآذرية والترك والعرب والبلوش إلى جانب الفرس، هذا من جهة، ومن جهة أخرى سيدرك أبناء الطائفة الشيعية في الوطن العربي أن دماءهم ودماء إخوانهم في الدين والوطن ستكون ثمناً لتحقيق هذا الهدف الفارسي الذي لا يخصهم. من أجل ذلك تعمل جاهدة لإلباس هذا الهدف رداء مذهبياً طائفياً يخدع ذوي المشاعر الوطنية. فهل سيظلّ قادة إيران منساقين وراء جنون العظمة؟ لا آمل ذلك.