عبدالعزيز السماري
من التحولات الملفتة للنظر في المجتمع السعودي هو الارتفاع النسبي للوعي الاقتصادي، فالمواطن أصبح يعيش حالة من القلق بسبب المتغيرات الاقتصادية الطارئة، وبسبب ضعف مدخراته المالية، وكأنه بذلك يتأسف على ضياع الفرص في الماضي، والتي ضاعت أولاً بسبب قلة وعيه بأهمية الإدخار، وثانياً لغياب تلك الفرص في خطط التنمية الأولى، وكان البديل العامل الأجنبي الجاهز، والذي كان أشبه بالدجاجة التي تبيض ذهباً للفئات القلية التي استفادت من الطفرة المالية الأولي والثانية.
الوعي الجديد أصبح يدرك أن الاقتصاد هو العامل الأهم للاستقرار، وهو تلك القوة الذي تصنع الدول العظيمة والأحداث التاريخية، لكنها لا تُعلن نفسها أمام الناس، وتجيد الاختفاء خلف المؤثرات الكبرى مثل الدين والوطن والقبيلة، ولهذا السبب تتكدس الثروات عند النخب التي تجيد استخدام هذه المؤثرات، وكان التحدي دوماً عن كيف تصنع اقتصاداً للجميع، وبدون وسائط أو مستفيدين.
كانت الإرث الإسلامي والعربي في علوم الاقتصاد ضئيلاً، ولم يضيف علماء المسلمين الأوائل لنظريات الاقتصاد شيئاً يُذكر، في حين أن الغرب أدرك مبكراً أهمية الاقتصاد، وقدم مدارس مختلفة في النظريات الاقتصادية، كانت عاملاً مؤثراً في الحروب والثورات، ولا يزال يقدم من حين إلى آخر النظريات الاقتصادية التي يُعالج من خلالها أزماته الاقتصادية.
كان آخرهم ميلتون فريدمان، وهو عالم اقتصاد أمريكي بارز، اشتهر بعشقه للاقتصاد الكلي والجزئي والتاريخ الاقتصادي والإحصاء، يطلق عليه «أبو الاقتصاد الحر»، فقد كان من أشد مؤيدي اقتصاد السوق، وأبرز المروّجين للنظام الرأسمالي التنافسي.
كان لأبحاثه ودراساته وقع كبير في تطوير نظريات الاقتصاد الكلي والجزئي، بالإضافة إلى أعماله الرائدة في الاقتصاد التاريخي والإحصائي، وحصل على جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 1976م عن نظريته في شرح سياسات التوازن وإنجازاته في التاريخ النقدي وتحليل الاستهلاك، قدم برنامجاً تلفزيونياً يسمى «حرية الاختيار»، وألف عنه كتاب حاز على نسبة مبيعات عالية.
كان الطرح الإسلامي في بداياته يعادي البنوك والرأسمالية والاشتراكية، وكان الزهد في الحياة دلالة على مثالية المسلم الحقيقي، وكان ذلك الطرح يتناسب مع الحالة الاقتصادية البدائية في المجتمع، لكن تلك الحالة لم تستطع مقاومة بدايات الطفرة المالية، فاندفع علماء الدين إلى البنوك، وأصبحوا يمثلون في مرحلة ما الوسيط الشرعي بين المعاملات الاقتصادية والمواطن.
المتغير الأهم كان ارتفاع مدخولاتهم المالية، نتيجة للأموال الطائلة التي يستلمونها مقابل مباركة لبرامج القروض في البنوك، والتي تم أسلمتها من خلال عمليات بدائية، لكن أسعار فوائدها المؤسلمة فاقت الربوية، وكان الضحية المواطن، وكان أهم حدث في التاريخ الاقتصادي للمواطن في العقود الأخيرة إنهيار سوق الأسهم الكبير، والذي كان مباشرة نتيجة للتسهيلات المالية المبالغ فيها تحت غطاء الدين.
ثم بدأت ذلك مرحلة جديدة أبطالها ليس علماء الدين، ولكن المحللين الاقتصاديين، والذين ملؤوا الدنيا تحليلاً وتعليقاً على المتغيرات الاقتصادية، وأصبحوا يقدمون آراءهم الاقتصادية بدون غطاء ديني، وانتشرت المنتديات الاقتصادية، وساهموا في إثراء الحوار الكبير حول أهمية الاقتصاد كبنية أساسية للمجتمع الناجح.
في هذا العقد أصبح المواطنون يدركون أكثر من ذي قبل أن الاقتصاد شريان الحياة، وأن الدول التي لا تقوم على اقتصاد متين يعود بمنافعه على مواطنيه تتأثر خططها الاقتصادية سلباً، وربما تضطر إلى سياسة شد الحزام، والتي يكون لها أثار مؤلمه، وقد تكون أشد تأثيراً لأنها جاءت بعد دخول المجتمع إلى مرحلة الرخاء بدون جهد.
ما يحدث الأن هو تطور مرحلي نوعي في الوعي الاقتصادي، وبقدر ما نسعد بخروجه من الطرح التقليدي، لازلنا نأمل أن يكون أكثر قدرة على تقديم الحلول الاقتصادية، وأن يبتعد عن فقط تحقيق الإثارة الإعلامية، وأن يتطور ذلك إلى خروج مدارس اقتصادية تقدم الحلول والأبحاث والتقارير والأطروحات عن أزماتنا الاقتصادية، والتي يأتي في مقدمتها طريق الخروج من اقتصاد المورد الواحد.