عبدالعزيز السماري
كنت في السابق أحد الذين يؤمنون أن السياسة فن الممكن كما يطلق عليها بعض المفكرين، وأنها أيضاً لا تمت بصلة لفنون الإدارة كما يتعلمها التلاميذ في القاعات، لكنني توصلت لقناعة أنها أقرب لأن تكون نزعات شخصية، ودوافعها سيكولوجيا الأشخاص أو الزعماء الذين يملكون القرار في بلادهم.
يساهم النظام السياسي المشترك، والذي تديره المؤسسات في معالجة اندفاع بعض الزعماء بسبب دوافعهم النفسية في العقل الباطن، لكن ذلك لا يعني عدم وجود زعماء يجيدون صناعتها في الغرف المغلقة، ويملكون القدرة على تحريك أحجار اللعبة على السطح بدون المشاركة في اللعبة على السطح، والدليل أن بعض أسرار كثير من الأحداث السياسية الكبري يتم إطلاقها بعد مرور ربع أو نصف قرن من الزمان.
في القرن الماضي، وأثناء الحرب الباردة، كانت اللعبة السياسية مكشوفة، وتتكون من موقفين متنافرين، فعلى السطح تعبر عنها الخطب العنترية أو المواقف المتشددة عن أمر ما في الموقف السياسي، وتعلمنا من تكرار سيناريو أحداثها أن خلف تلك التصريحات النارية عادة تجري مباحثات دافئة بين الطرفين، وأن تلك التصريحات كانت فقط مجرد مناورة يتم إشغال المنابر الإعلامية بها قبل التوصل إلى اتفاق براغماتي صرف.
ما يجري هذه الأيام من أحداث وتصريحات يوحي للمراقب القريب والبعيد أن ثمة متغيرات خطيرة على الساحة، وأن الحرب العالمية الثالثة في طريقها للاندلاع، فقد اشتعلت الساحات الإعلامية بتصريحات التدخل في سوريا، وفي الاتجاه الآخر أطلقت موسكو التحذيرات من أن الحرب ستطول إذا قرر العرب التدخل في الشام، وأن ذلك سيؤدي إلى حرب عالمية.
في نفس الوقت تجري على هامش هذه التصريحات تحركات خطيرة على رقعة الشطرنج من جانبي روسيا وحزب الناتو، وتظهر خارطة مواقع حزب الناتو في أوروبا الشرقية تقدم لقواتها ولحصارها حول روسيا، وقد يمثل دخول روسيا إلى سوريا محاولة غير متوقعة للخروج من الحصار والبحث عن حلفائها في المنطقة مثل سوريا والعراق وإيران.
يبدو أن الاحتكاك بين الغرب وروسيا التي تشعر بالمهانة والإذلال وصل إلى مرحلة متقدمة جدا في سوريا، وقد تشهد الأيام القادمة مفاجآت، قد تشعلها تركيا أو تكون رأس حربتها التدخل العربي في سوريا كما أعلن عنه، ويظهر للمتابع أن إيران على علم بهذه الأحداث، وقد نجحت في هزيمة واشنطن في العراق، وتبحث عن مواقع جديدة لها في سوريا.
الحاضر والغائب عن هذه المناورات هو عقلها الباطن المتمكن، والذي تقوده واشنطن، والتي تحلم في الوصول إلى إحكام القبضة على العالم، وترى في جنون بوتن عائقا سياسيا وعسكريا، فالرجل مهووس بإعادة القوة السوفيتية إلى سابق عصرها، وواشنطن تدفعه بهدوء إلى الهاوية.
لازالت واشنطن في حيرة في كيفية مواجهة تحركات بيوتن في سوريا، وربما تساهم محاولة فهم شخصيته في إدراك عواقب غزوه المفاجئ لسوريا، والدراسات النفسية تتحدث عن بوتين على أنه شخصية استخباراتية مرتبطة بالنظام السوفيتي القديم، ويشعر بالمهانة شخصيا من سقوط الاتحاد السوفييتي وإمبراطوريته، ومصاب بعمى المخاطر، ولن يتردد في المضي في أي اتجاه من أجل إعادة وهج الإمبراطورية الغائب.
ما يزيد من المواجهة خطورة هو نظرة الاحتقار التي يشعر بها من الإعلام الغربي، وتزيد مشاعر إحساسه بالنظرة الدونية من اندفاعه نحو الخطر والمواجهة مع الغرب، ويظهر ذلك في الاندفاع الإعلامي لبوتن، والذي أصبح ظهوره الإعلامي ملفتا للنظر، ويكاد لا يغيب عن الأحداث اليومية.
حسب تسارع الأحداث يبدو أن بوتن اختار الساحة السورية لأن تكون المسرح لتحدي أمريكا بعد خسارته لمواجهة أوكرانيا، وربما لأن تكون الميدان القادم للحرب العالمية الثالثة، ما لم تجر الرياح في اتجاه آخر، وتعود الغلبة للحكمة وسياسة الرشد، والحرب إن بدأت ستكون حربا نووية مدمرة للجميع، وسيموت بسببها الملايين في إيران وسوريا والبلاد العربية في المنطقة، والله المستعان.