د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
ليس اعتذاراً باسم وزارة الصحة، لأن أحداً لم يخوّلني بذلك، وإنما أعتذر عنها لأنني ابن من أبنائها، خدمتها مدة أربعة وثلاثون عاماً- من المهد إلى التقاعد. وما يدفعني لذلك هو أن كارثة حريق المستشفى العام ليلة الثالث عشر من ربيع الأول لم تترك في القلب والشعور حسرة وأسى على من قضى
من الضحايا ومن أصيب ومن ارتاع فقط، بل رسمت في الذهن شريطاً من كابوس مُفزِع، يبدأ بحدوث الكارثة ويمتدّ إلى الوراء عشرات السنين لينتهي عند نقطة ما في تاريخ وزارة الصحة. فالكارثة لم تحدث بسبب قوة قاهرة، ولم تكن مفاجأة خارقة، بل الأحرى أنها مفاجأة عجيبة؛ ووجه العجب ليس في كونها حدثت، بل في عدم الانتباه إلى أنها قد تحدث. فالدفاع المدني سبق أن أبدى عدة ملاحظات تتطلب تأجيل استلام المستشفى ومن ثَمّ افتتاحه إلى حين استدراكها. ومع ذلك تم افتتاح البرج الذي أشرفت المنطقة على تنفيذه ضمن برنامج تطوير المستشفى العام ليكون توسعة - أو على الأصح إحلالاً - للمبنى القديم، ويضم مائتي سرير. ويمكن للمرء أن يتصوّر فرحة الأهالي بهذا البرج الجديد وقت افتتاحه قبل ثلاثة أعوام. والآن وقعت الواقعة وماتت الفرحة مع موت الضحايا. وإذا كان صحيحاً أن مخرج الطوارئ كان مغلقاً بالسلسلة والمفتاح (للوقاية من تسلّل بعض الموظفين كما قيل) قبل أن يتمّ كسره، فإن هذا أسهم أيضاً في تضييق سبل النجاة من الدخان الخانق. ومهما كان مصدر نشوء الحريق -فنتائج التحقيق لم تعلن بعد- فقد كان هناك تجاهل واضح للاحتمالات المستقبلية بأن يحدث مثل هذا الحريق اتكالاً على مجرد وجود وسائل السلامة دون القيام بالرقابة المستمرة للتأكد من جاهزيّتها، ودون التأكد من سلامة أيّ تمديدات أو أجهزة أو عبوّات يمكن أن يحدث فيها عطبٌ يهدّد سلامة المرضى والعاملين، وإجراء الصيانة الوقائية الدورية عليها. وفوق ذلك يتّكل كل مسؤول على مَن دونه من عمّال أو فنّيين أو موظفين أو شركة - بأنهم يقومون باللازم، وقد يعتاد على تجاوز الهنات البسيطة حتى تتراكم وتجلب مفاجأة لا تحمد عقباها. ينسى المسؤول أن إتقان العمل والرقابة المستمرة والصيانة الوقائية هي نفسها أهمّ وسائل السلامة، وغيابها يمثّل شرخاً في أخلاقيات العمل وعيباً في النظام الإداري وضعفاً في ثقافة العمل بشكل عام. إن ثقافة العمل لا تنضج بغير شعور بالولاء للعمل وبالمسؤولية الذاتية عن إتقانه. وهذه مسألة تربويه ترعاها أيّ مؤسسة بالقدوة والثقة والتحفيز وتطوير الفكر الإداري، وذلك على مستوى المركز والوسط والأطراف. فهل نحن بوزارة الصحة -والحديث عنها ولكنه ينطبق على غيرها- أولينا هذا الجانب اهتماماً منهجياً، أم شغلتنا عنه أعمالنا؟ يعيدني هذا السؤال إلى شريط الكابوس المفزع، فأتذكر ما حدث بعد تعييني مديراً لمستشفى الاصرية القديم في جماد الثاني عام 1399هـ. فعندما قمت بجولة في المستشفى لاحظت الطلاء الجديد وأسقف الأرمسترنج الحديثة بإضاءتها الجيدة، ولم أكلّف نفسي بالسؤال عمٌا إذا كان التجديد قد شمل أيضاً تمديدات الكهرباء. وبعد أيام -وكنت مسافراً لمدينة الدمام- حدث حريق انبعث من بعض أجزاء الأرمسترنج وانتشر دخانه الكثيف في بعض أقسام المستشفى، وتُوفيَ بسبب ذلك أربعة من المرضى، وتمّ إخلاء المستشفى من جميع المرضى والعاملين في نفس الليلة، ونقلوا إلى عمارة مستأجرة. وتبيّن أن الترميم لم يشمل التمديدات، وأن الإدارة -كما ذكر الفنيّ الكهربائي بالمستشفى- طلبت أكثر من مرة من مرجعها إجراء الصيانة اللازمة، ولم يتمّ شيء إلى أن حدث الحريق. ذلك ما حدث قبل ثمان وثلاثين سنة، ثُمّ يتكرّر الشيء نفسه هذا العام في مستشفى جديد مع فارق في بعض التفاصيل وحجم الكارثة. دلالة ذلك واضحة. فعلى الرغم من تحقيق إنجازات رائعة في التحصين ضدّ الأمراض المعدية وفي إنشاء المستشفيات الحديثة والمراكز الصحية -على سبيل المثال- في أثناء تلك الحقبة، فإنه لم يتغيّر شيء كثير في ثقافة العمل، إذ لم ينلها نصيب كبير من الاهتمام. وهذا سبب ثانٍ للاعتذار. ولكن لماذا؟ لقد انشغلت وزارة الصحة بما أنيط بها من أعمال كبرى ومهام جليلة ومتنوّعة، لا بدٌ من إنجازها، وكان عليها أن ترتب أولوياتها حسب الأهم فالمهم، ولكن هيهات! فكلُّ تلك الأعمال والمهام تتجمّع خيوطها في مركز واحد، هو ديوان الوزارة، وكلها تضغط من أجل الإنجاز، ممّا يجعل إدارتها مركزية مضاعفة. وهي مضاعفة لأنها تجمع بين المركزية الرأسية في اتخاذ القرار وتسلسله في دورة بيروقراطية بطيئة من المركز (الوزارة) للوسط (المديريات) ثم للأطراف التي تقدم الخدمات (المستشفيات والمراكز الصحية وغيرها) ممّا يضعف ولاء العاملين فيها للعمل ومكان العمل، لأنهم يشعرون بأنهم مجرد موظفين يتلقون تعليمات رؤسائهم؛ وكذلك المركزية الأفقية من خلال تولّيها مهامّ الإدارة والإشراف والتمويل لخدمات عديدة ومتنوعة - مثل تقديم الرعاية الصحية في المستشفيات والمراكز الصحية، والخدمات الوقائية ورعاية صحة ملايين الحجاج والمعتمرين، والتموين الطبيّ، وتنفيذ المشاريع الإنشائية، وتراخيص المؤسسات الصحية الخاصة ومشاريع وأنظمة المعلومات والبحوث إلى جانب مهامّ المتابعة وضمان الجودة والتخطيط والتدريب وإجراء منافسات التشغيل والصيانة والتغذيةالأدوية والأجهزة. وهكذا فإن هذه المركزية لا تتيح متسعاً من الوقت ولا بقيّةً من جهد لزيادة الاهتمام بالأطراف البعيدة عن المركز وتقييم أدائها من حيث الالتزام بالمسؤولية وكفاءة الأداء وإتقان المخرجات، ومن ثَمّ لتنمية ثقافة العمل وتكثيف الرقابة ودعم إمكاناتها وتطوير القوى العاملة -القيادية والتنفيذية- فيها. وما دامت هذه المركزية جاثمة على صدر الوزارة، تكاد تكتم أنفاسها، فإن الاهتمام بالأطراف -قاعدة الهرم الصحي- سيظلّ ضعيفاً، وعندئذٍ لن يفيد أيّ تغيير أو إصلاح على المستوى المركزي.