أمل بنت فهد
أثقل ما يمكن أن يحمله الإنسان في رأسه ووجدانه الشعور بالتقصير.. تلك الحالة التي يدخلها بكامل إرادته تجاه نفسه أو اتجاه من يحبهم أو من هو مسؤول عنهم.. مع الوقت يصبح شعورا قاهرا يفرض وجوده مهما قدم ومهما بذل.. يبحث بين ثغرات ضعفه وغفلته ومحدودية قدراته.. يجلد نفسه باللوم مرة.. وبالمحاسبة مرات ومرات.. فأي حياة تنتظر روحا مثقلة بتحقيق المهمة المستحيلة.. مهمة كمال العطاء.. كمال الاحتواء.. كمال الحضور.. كمال الانتباه.. مثالية خيالية ليست موجودة إلا في القصص والأفلام.
ويبقى الواقع يصرخ فيه بأن الأمور لا تقاس بهكذا معيار.. ويظن أنه من فرط الحب والاهتمام يمعن بتحميل نفسه ما لا تطيق.. بينما الحقيقية أن الحب الصحي والواقعي والسوي غير مرتبط بالكم إنما بالكيف.. مرتبط بكيف نكون معهم.. كيف نبقيهم قيد الإحساس دون أن يكون نبضهم مرتبطا بتواجدنا حيث كانوا.. الالتصاق لا يعني وجود وتواجد بل قد يصبح قيد وطوق خانق.. فالفرق كبير وجوهري بين الحضور المطلق والعائم على علته وبين قوة الحضور وتأثيره الذي قد يكون لحظيا إلا أنه يترك خلفه أثرا يصعب مسحه أو تغيير ملامحه.
كثيراً ما طُرحت قضية التواجد الأمثل مع الأبناء ومشاركتهم حياتهم.. وغالباً توضع قواعد صعبة وغير مجدية.. بعضهم يرى أن الحضور يكون بالتواجد الدائم والذي غالباً يمر إما بفرض رقابة صارمة وتدخل في شؤونهم وينتهي بقطيعة بعد أن يستوي عودهم ويستقلون بحياتهم.. أو يُرهق الوالدين من ثقل المهمة ويعقبها إهمال كارثي.. ولو علموا أن قوة الحضور لا شأن لها بالمدة التي يقضونها سوية.. إنما بصدق المشاعر حينها.. والانتباه التام لسكناتهم وحركاتهم.. باللمسة الحانية.. والحضن الكريم.. والبساطة والعفوية.. والكثير الكثير من الضحكات.. وفي جو من الثقة والحوار الحر.. وعندما أقول حر فأني أقصد الحرية بمعناها الصريح.. حرية دون أحكام مسبقة.. دون فرض تجارب الوالدين على أنها مقياس الحكمة والدروس.. فالوقت وقتهم وليس وقتك لتسرد بطولاتك.. وحياتك المثالية التي لم تمر بها التجارب البائسة..!
بحضور كهذا ستعرف أبنائك فعلاً.. ماذا يحبون وماذا يكرهون.. كيف يعبرون عن أنفسهم.. ستعرف كيف تقرأهم.. تشعر بخوفهم وأمنهم.. تفهم صمتهم المقلق.. تستوعب أدق تفاصيلهم.. لأنهم سيكونون معك كما هم.. وليس كما تريدهم أن يكونوا.. وبالتالي ستدخل معهم مرحلة الحضور العاجل.. ذاك الحضور الذي يطلبه ابنك إذا حاصره هم لا يمكنه أن يواجهه وحده.. لأن طلب العون يأتي بعد الشعور بالأمان وليس قبله.. يأتي بعد الثقة وليس قبلها.
إذا تعلمت كيف يكون حضورك مؤثراً تختصر مسافات طويلة.. وتحطم أسوار الغموض التي تُبنى عند الأسرة القائمة على مبدأ اللا خصوصية.. واللا حرية.. والأقنعة التي لا تخلع إلا في غيابك أو خلف الأبواب الموصدة.. وعلى ذلك يمكنك أن تقيس حضورك في الحب والصداقة.. باختصار مع من يهمك أمرهم.