حمّاد السالمي
«وللصورة في زمن الكاميرات والجوالات والفضائيات؛ صاحب واحد أو أكثر من صاحب، فهو إما مصَوِّر أو مصَوَّر، بعكس الكلمة التي ليس لها إلا صاحب واحد، فهي التي شبهها الأقدمون بالرصاصة إذا خرجت من البندقية لا تعود إليها ثانية، وهو تشبيه لتجسيد خطورتها وأثرها في حياة الفرد والمجتمع، ولهذا حفظ العرب المثل القائل: (ربّ
كلمة قالت لصاحبها دعني)، لأن ما يتفوه به اللسان له سلبياته وله إيجابياته، ومن الكلام ما أشقى وأبكى وقتل.
«ذكروا أن ملكًا من ملوك حمير؛ خرج متصيدًا ذات يوم سط حاشيته، ومعه نديم له كان يقربه ويكرمه، فاشرف على صخرة ملساء ووقف عليها، فقال له النديم: لو أن إنسانًا ذُبح على هذه الصخرة؛ إلى أين كان يبلغ دمه..؟ فقال الملك لبعض حاشيته: اذبحوه عليها ليرى دمه أين يبلغ. فذُبح عليها. فقال الملك بعد ذلك: (ربّ كلمه قالت لصاحبها دعني). فذهبت مثلًا لمن يتكلم فيما ليس فيه فائدة، ولا يقدّر عواقب ما يتلفظ به من قول.
«لو عرف الأقدمون أيام الملك الحميري هذا الصورة التي عمّت حياتنا اليوم، فلربما قالوا: (ربّ صورة قالت لصاحبها دعني)..! فالصورة تحولت من فن وابتكار ومهنة ومهارة لا يجيدها إلا المبدع من الناس؛ إلى ممارسة يومية وساعية لكل من هب ودب. يصوّر نفسه قائمًا وجالسًا ونائمًا ومنبطحًا وآكلًا وشاربًا، ويريد أن يراه الناس على أي حالة هو..! يوجه العدسة إلى هنا وهناك، وإلى أناس بعلم منهم أو بدون علم، منتهكًا حرماتهم وخصوصياتهم، ناشرًا على الملأ ما يقولون وما يفعلون، دون حياء أو خجل أو مراعاة لدين أو أخلاق وقيم، ثم ماذا بعد..؟
«ليس غريبًا ما نراه وما نسمع عنه من مقاطع فاضحة، وانتهاكات صارخة، وعدوان بالكلمة والصورة على ثوابت دينية وقيم اجتماعية، ورموز وطنية وخلافه، وأن تستقبل الشرط والمحاكم والجهات الرسمية؛ دعاوى ضد هذا وذاك، ممن يحرصون على الترزز في قنوات فضائية، ويعمدون إلى مقاطع مصورة، ناشرين على البعيد والقريب؛ غسيلهم غير النظيف، الذي يتجاوزهم إلى غيرهم من الغارين الآمنين، فنحن نعيش عصر الصورة التي هي أبلغ وأشد فتكًا من عبارة عوضًا عن كلمة، فالصورة أصبحت مطية للكلمة التي حذر منها من سبقنا، بل هي التي كانت تطلب من قائلها أن يدعها وشأنها، فلا ندري اليوم مِمَّ نحذر أولًا: من الكلمة..؟ أم من الصورة..؟
«قال أحد الفلاسفة: تمنيت أن لي رقبة زرافة. قيل له: لماذا ؟ قال: حتى إذا خرجت الكلمة يطول عليها الطريق، فأعرف هل هي لي أم علي..! هذا مما يدل على خطورة الكلمة التي يتفوه بها الإنسان، فما بالك بالصورة التي تجمع بين الكلام المسموع والشكل المنظور، فالصورة تجسيد لحالة مرئية يجري حبسها لحظيًا وزمنيًا..؟! وزد على ذلك؛ شيوع وانتشار واسع وسريع عبر وسائط معلوماتية لم يشهد لها العالم مثيلًا من قبل، وأكثر من هذا كله، استغلال تقنية (الفوتوشوب) في التحرير والتحوير والتزوير..!
«من المؤكد أننا لسنا وحدنا من يواجه هذه السلبيات العجيبة، ويعايش هذه الإفرازات الغريبة، فنحن لسنا استثناءً بين شعوب الأرض، ولكن لدينا من المبادئ والقيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية؛ مخزون كبير ليس لغيرنا مثله، نعيشه بشكل يومي؛ من خلال دور العبادة والتعليم والثقافة العامة ووسائل الإعلام؛ وكان يمكن أن يشكل هذا المخزون الإنساني الكبير؛ وقاية جيدة، ورادعًا قويًا لمن تسول له نفسه الخروج على المجموع بما يسيء للمجموع، وينتهك حقوق غيره حتى لو اختلف معه.
«لقد سعى الإنسان منذ أقدم العصور؛ إلى حفظ صور حياته والذكريات التي يمر بها وما يحدث له طيلة عمره، فبدأ بالرسم في الكهوف، ثم الرسم على الجدران, ثم صنع (بورتريهات) من الشمع، حتى توصل إلى اختراع كاميرا التصوير الفوتغرافي على يد الفرنسي (لويس داجير) منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. هذا التراكم المعرفي في علم الصورة الذي بدأ بالعالم العربي (ابن الهيثم)؛ والذي سبق به علماء أوروبا بتسعة قرون، وصل بنا إلى تقنيات الصورة المتحركة، وهي تقنيات أصبحت في متناول كل الناس عامة وخاصة، واستغلها ضعاف النفوس فيما يضر ولا ينفع، وها نحن في مواجهة ممارسات سيئة وغير أخلاقية فيما نرى ونسمع كل يوم.
«أشعر أن في كثير مما يُبث ويُنشر من مقاطع؛ سفاهات وسخافات وجهالات، وفيه هزل وهزؤ غير مألوف بيننا، وأكثر ما يُؤلم ويُحزن حقيقة؛ أن خلف البعض الآخر منها؛ أرواح شريرة، وأنفس دنيئة، تسعى للانتقاص والإيذاء والإساءة المتعمدة، وهذا ما يجب أن يوقف بعقوبات عامة وخاصة رادعة، حتى لا تتحول الصورة من فن رفيع، ووسيلة تثقيف وعلم، إلى قنبلة حارقة، يستخدمها من شاء، لقتل من شاء، وقت ما شاء:
لا ترجع الأنفس عن غيِّها
ما لم يكن منها لها زاجر