حمّاد السالمي
ماذا يجري بالضبط على الأراضي العربية التي تهيمن عليها إيران الصفوية بمليشيات وحشود وأحزاب ومقاتلين وقيادات موالية، ثم يتفاخر قادتها على رؤوس الأشهاد بأنهم (موجودون في أربع عواصم عربية: (بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء)؟!
وما الذي تخطط له إيران الصفوية، للوصول إلى مناطق أخرى في أكثر من بلد عربي؛ عن طريق مراكزها الثقافية، وأفواجها السياحية، ومذهبة المزيد من المبهورين بالدعاية الإيرانية المخادعة؛ طيلة ثلاثة عقود ونيف من السنين؟!
إنه العداء الفارسي القديم للعرب؛ الذي يأبى أن يموت أو يذوب؛ حتى بعد أن دخل الإسلام ديار فارس قبل أربعة عشر قرنًا، فقد شن عليها المسلمون حملات عسكرية قوضت إمبراطوريتها الساسانية، وقضت على ديانتها المجوسية، فغزاها خالد بن الوليد في عهد أبي بكر رضي الله عنه، ثم فتحها سعد بن أبي وقاص في معركة القادسية عام 14هـ، وتم ضم كافة أجزاء فارس في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام 23هـ، وسمى المؤرخون هذا الفتح بالفتح الإسلامي لفارس، وظل الفرس منذ ذلك العهد؛ يعطوه صبغة قومية فيطلقون عليه: (الفتح العربي لفارس)، وبالفارسية: (حملة إعراب به إيران).
سبحانك يا الله.. كأن التاريخ يعيد نفسه في علاقة العرب بالفرس، وعلاقة الفرس بالعرب.
منذ ما قبل الإسلام؛ والعرب المتاخمون لفارس وحتى البعيدون عنها، يواجهون غطرسات الفرس، ويعانون من همجيتهم واعتداءاتهم عليهم مرات وكرات، حتى جاء يوم (ذي قار) الشهير، الذي قالوا عنه بأنه أول انتصار يحققه العرب على الفرس، وظلوا يفخرون به، كونه أعاد لهم كرامتهم، وعزز من ثقتهم، ورفع من شأنهم.
ذي قار -نسبة إلى الأكمة السوداء أو من الاستقرار والسكن فيه- هي اليوم إحدى المحافظات العراقية الجنوبية، نسبة لهذه المعركة. في بداية تأسيسها عرفت باسم لواء (المنتفك - المنتفج باللهجة العراقية الجنوبية)، ثم في العهد الجمهوري أصبح اسمها لواء الناصرية، وفي سنة 1969 م، بُدل اسمها إلى محافظة ذي قار عندما قام حزب البعث في تلك الفترة بتغيير أسماء المحافظات العراقية، فصار اسم محافظة الناصرية هو محافظة ذي قار، نسبة إلى الواقعة إياها. وكانت فيها عيون ماء عذبة تسمى عيون ذي قار. وهي تضم مواقع أثرية لـ (5000) سنة خلت، وفيها مدينة (أور) القديمة، وموطن السومريين والأكديين، ومولد سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وفي بطحائها حدثت (معركة ذي قار)؛ أول يوم انتصر فيه العرب على الفرس في الجاهلية، فهي المعركة التي جعلت كسرى يموت همًا وغمًا، وخلفه ابنه شيرويه.
أما متى وقع يوم ذي قار؟ فالمؤرخون مختلفون في ذلك. منهم من جعله في يوم ولادة الرسول، ومنهم من جعله عند منصرف الرسول من وقعة بدر الكبرى، ومنهم من جعله قبل الهجرة، وقد ذهب (روتشتاين) إلى أنه كان حوالي سنة 604 م، وذهب (نولدكه) إلى أنه بين 604 و615 م، وأكثر أهل الأخبار أنه وقع بعيد المبعث عام 609م، ورووا في ذلك حديثاً قالوا إن الرسول لما بلغه خبر المعركة قال: (هذا أول يوم انتصف العرب فيه من العجم، وبي نصروا).
الشاعر العربي الكبير أبو بصير الأعشى: (صناجة العرب- ميمون بن قيس)؛ الذي أدرك الإسلام ولم يسلم؛ خلّد هذا اليوم المشهود في شعره فقال قصيدة طويلة نأخذ منها قوله:
وجندُ كسرى غداة الحنوِ صبحهمْ
مِنّا كَتائبُ تُزْجي المَوْتَ فانصَرَفُوا
جحاجحٌ، وبنو ملكٍ غطارفة ٌ
من الأعاجمِ، في آذانها النُّطفُ
إذا أمَالُوا إلى النُّشّابِ أيْدِيَهُمْ،
مِلنا ببِيضٍ، فظَلّ الهَامُ يُختَطَفُ
وَخَيلُ بَكْرٍ فَما تَنفَكّ تَطحَنُهمْ
حتى تولوا، وكادَ اليومُ ينتصفُ
لَوْ أنّ كُلّ مَعَدٍّ كانَ شارَكَنَا
في يومِ ذي قارَ ما أخطاهمُ الشّرفُ
ذي قار.. وما أدراك ما ذي قار.. كان من أعظم أيام العرب، وأبلغها في توهين أمر الأعاجم، وهو يوم لبني شيبان، وهو أول يوم انتصرت فيه العرب على العجم كما قال بهذا المؤرخون القدامى. لكن السطو الإيراني الصفوي على هذه الديار العربية في عصرنا الحاضر؛ يجعلنا أمام (ذي فار) وليس (ذي قار)..! تلك التي كانت ذات يوم، وهذا لم يتحقق لفرس اليوم لولا تواطؤ بعض العرب، وخيانة بعض العرب، ومثل هذا كان كذلك في العصر الجاهلي، ولاءات وعمالات وخيانات عربية، فقد استخدم الفرس العرب ضد بعضهم البعض، فنجحوا بذلك في اختراق كياناتهم القبلية، ودخول ديارهم، حتى وصلوا إلى اليمن، وكتب التاريخ تزخر بكثير من قصص التجاذب العربي الفارسي في تلك الأزمنة.
هل يعود للعرب عزهم وفخرهم..؟ بأن يعود إليهم وعيهم، ويدركوا جيدًا نوايا عدوهم الفارسي المتربص بهم، فيتكاتفوا، ويتعاضدوا، ويتعاونوا، فلا يتركوا له فرصة لاختراقهم وتفريقهم وتمزيقهم والتسلط عليهم.
(ذي قار) لا (ذي فار)، هو ما ينقص العرب اليوم في مواجهة المد الفارسي الغاشم على دولهم وشعوبهم. هذه ليست دعوة لحرب مع إيران، ولكنها دعوة لليقظة من غفلة، وجمع العرب بالحزم والعزم في مواجهة الحشد الطائفي، والتسييس المذهبي، وضرب العرب بالعرب على أرض العرب.