د.محمد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، نبينا محمد الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
الترف والبذخ، هو: الإفراط والتوسع في النعمة «في كل شيء» وتجاوز الحد، وهو مرض خطير، حيث إنه لم
يرد في القرآن إلا في مورد الذم والاقتران بالكفر والعصيان، وإليك البيان:
قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ}، وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
ولبيان ذلك الارتباط الشديد بين الترف والكفر استعيض عن ذكر الكافرين بذكر المترفين في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ}.
ثم بعد ذلك ما النتيجة؟
إنه العذاب الأليم الذي ينسيهم ترفهم ونعيمهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}. والمعنى: أمرنا مترفيها بالاستقامة على الشرع فخالفوا بالفسق فحق عليهم العذاب، وبعد ذلك يحصل الندم، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ}.
ولقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم خطورة التنعم والترفه خصوصاً بعد أن اتسعت موارد الدولة، وكثر المال بسبب الفتوحات، فكانوا يتعاهدون بعضهم بالنصح، ففي صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عتبة بن فرقد رضي الله عنه -وكان أميراً على العراق- يقول له: يا عتبة أطعم الناس في رحالهم مما تأكل في رحلك، فإنه ليس من كدِّ أبيك ولا كد أمك ولا كدك، وإياكم والتنعم وزي أهل العجم.
ومن مظاهره: الإفراط في تناول الطعام والشراب، وإنفاق الأموال الكثيرة في الملابس والاهتمام بالشهير منها، وصرف الأموال في السيارات الفخمة ومتابعتها، والتباهي في بناء المنازل وزخرفتها، والإفراط في الكماليات من الفرش والأثاث.
وللترف آثار، وأسباب:
هي طول الأمل، ونسيان الموت، والغفلة عما أعده الله لعباده الصالحين، وكثرة المال ووفرة النعم، والتقليد الأعمى، والجهل بأضرار الترف وآثاره، وضياع الأوقات، وعدم الحرص على الطاعة بما يقرب إلى الله تعالى من نوافل، كالصلاة والصيام، وتتبع أقوال العلماء للأخذ بالأيسر منها، التعلق بالتوافه وضعف التفكير وقلة الإدراك، وانتشار التقليد، وقسوة القلب والتفكير في مظاهر الحياة الدنيا، وعدم القدرة على تحمل المصائب والصمود أمام الفتن والأحداث، وترهل الأجساد وظهور السمنة،
وانحراف المترف عن طريق الحق نتيجة التوسع في المباحات، والعجب بالنفس والتكبر على الآخرين، وكسر قلوب الضعفاء والفقراء وذوي الحاجة، وقليلي الإنتاج.
وقد امتثل الصحابة لهذه الوصية العمرية المذكرة بوصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يتقوا الدنيا ويحذروا الانغماس فيها، فقد ثبت عن عبدالله بن بريدة وعبدالله بن شقيق أنهما قالا: رحل صحابي إلى صحابي آخر في مصر -وهو فضالة بن عبيد- فقال الصحابي: لم آتك زائرا إنما جئتك أسألك عن حديث سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم لعله عندك علم عنه، ثم قال: ما لي أراك شعثاً وأنت أمير الأرض؟ فقال فضالة: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه. فقال له: فما لي لا أرى عليك حذاء؟...).
بل صار ترك الترفه وصفا ملازما لأهل السنة، فقد قال الحسن البصري رحمه الله: «سننكم والله بين الغالي والجافي، وإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما يأتي، لم يذهبوا مع أهل الترف في ترفهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، بل حافظوا على الحق حتى لقوا ربهم فكذلك فكونوا رحمكم الله». بل إن السلف كانوا ينهون عن مجالسة المترفين خوفا من العدوى.
علاج الترف:
الخوف من الله ومن عقابه، ودراسة سيرة النبوية، وتربية النفس على الفطام، فلا يحقق لها كل ما تشتهيه وتطلبه، ومحاسبة النفس مجاهدتها على الإكثار من نوافل العبادات والنظر إلى ملذات الحياة الدنيا وأنها زائلة، وتَذَكُرُ ما أعد الله للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وأن الترف لا يليق بالمسلم، وأنه ليس من أسباب السعادة، فكم من مترف حازت له النعم ومع ذلك ففيه من الأمراض ما تكدر عليه لذة تلك النعم.
ونرى هذا الترف المستشري في المجتمعات العربية وبالتحديد «الخليجية» بناءً على تقاليد وعادات معينة، وهي الإكثار من المطعومات كماً ونوعاً، وقد ذكر بعض أطباء المسلمين أن الله تعالى جمع الطب في نصف آية وهي قوله: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، وهذا سلوك منبوذ، ومشابهة لأهل الدنيا من الكفار الذين قال الله فيهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ}.
قال الحافظ ابن كثير: «وقد تورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن كثير من المطاعم والمشارب خشية أن تشمله هذه الآية وأن يدخل فيها».
وقد ذكر الترف في القرآن الكريم في عدة مواضع كلها ذم له وتحذير منه:
قال الله تعالى في وصف الكفار: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ}، وقال عز وجل: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ. لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ}.
كما اجتاح الترف القرى فكان سبباً في هلاكها كما في قوله تعالى: {لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ}، يعني ارجعوا إلى ما نعمتم فيه من عيشتكم ومساكنكم، وقال ابن كثير: «(لا تركضوا وارجعوا) هذا تهكم بهم كأنه قيل لهم: لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور والعيشة والمساكن الطيبة».
فهيهات هيهات، فقد حل بهم العقاب والمقت، وذهبت النعمة عنهم، وذهب عزهم وشرفهم ودنياهم، ولازمهم الندم والحسرة إلى يوم القيامة.
وقد وصف الله تعالى أهل الترف بالفسق فقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.
وبين سبحانه أن التوسع في النعمة من الترف، وهذا الترف ابتلاء وامتحان للمترفين في الدنيا، فلقيت العذاب من الله في الدنيا والآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فالله تعالى يقول: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ }.
فهذه رسالة للإنسان أن من أوسع الله عليه الرزق وأكرمه بنعيم الدنيا، فإنما ذلك ليختبره ويمتحنه ويبتليه، فمن صانها وحافظ عليها، فإن هذه النعمة سوف تستمر له ولن تزول إلا بإذنه سبحانه، وأن الله سوف يسأل العبد يوم القيامة عن نعيمه، وهل أدى شكره أم لا، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.
وقد جاءت الأحاديث أيضاً في ذم الترف، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا وما فيها من النعيم وقال: (إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها) قال صلى الله عليه وسلم: (إن من شرار أمتي الذين غُذُوا في النعيم يطلبون ألوان الطعام وألوان الثياب يتشدقون بالكلام ) صححه الألباني رحمه الله بمجموع طرقه.
وكان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما ولهما مال ونساء وملك، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أزهد الناس وعنده تسع نسوة.
وكان عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام من الزهاد ومن المعدودين من كبار التجار.
فيجب على المسلم أن يكون زاهداً شاكراً لنعم الله، ولا ينشغل بأمر لا ينفعه في الآخرة، ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهد أن تكون من كل خير أقرب، قال الله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}.
لذا يجب على كل مسلم ومسلمة الابتعاد عن الترف وعدم الوقوع فيه، وعدم التعلق بالملذات، والاقتصاد في الإنفاق، وإذا أنعم الله عليك بنعمة فإنما هي استمتاع بالمباح، ولا تشغلك عن الآخرة، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، فأباح الله لك من المآكل والمشارب والمساكن والملابس والمناكح، فلِربك حق، ولنفسك حق، ولأهلك حق، ولضيفك حق فأعط كل ذي حق حقه، ولا تكن من المسرفين.
كما أمرنا الله سبحانه وتعالى بأن ننفق في سبيل الخير، ولم يأمرنا بأن ننفق أموالنا كلها في ملذات الحياة الزائلة، بل يجب ألا تشغلك هذه النعمة عن الله فكن شاكراً لأنعمه.
ثم لو تفكر معي أخي القارئ في الإسراف والتبذير مثلاً في المأكولات والمشروبات « إنه لشيء عظيم « فالنفايات المنزلية تشكل نسبة عالية من الإسراف؛ لأن هناك من يلقي من النفايات اليومية ما يقدر بأكثر من كيلو يومياً، لا حول ولا قوة إلا بالله.
ففي النظام الأوروبي تفرز النفايات المنزلية، ويعزل الأكل عن المواد التدويرية، فيستفاد منها في الأسمدة وغيرها، وأما عندنا فحدث ولا حرج.
ولنا في حفلات الزفاف وما ينفق فيها من مصاريف، وقد يكون للنساء النصيب الأكبر، فيتحول الحفل إلى عرض أزياء بين النساء، فهذه تفتخر بفستانها الذي صممته في المكان الفلاني، وهذه التي جلبته من البلد الفلاني، وهذه التي اشترته بـ(؟!) المبلغ الفلاني، نسأل الله العافية.
أين أنت يا من تكرم ضيفك بمئات الآلاف، أين أنت يا من تغسل يد الضيف بدهن العود الملكي، أين أنت يا من تذبح الجمال لضيف واحد، أين أنت يا من تحرق الأموال لتغيظ بها من ليس لديه شيء، أين أنت من بعض الدول التي كانت تُضرب بالأمثال من كثرة النعم التي فيها، وكفرت بالنعمة، وطغت عليها، حتى أتاها الكساد من الله، وألبسها لباس الجوع والفقر والخوف.
فحذارِ حذارِ من الترف والبذخ وبالمصطلح العامي (الهياط)؛ لأنه سبب من أسباب هلاك الأمم، كما أوضحنا سابقاً، ويجب النصح وتطهير المجتمعات من الترف والغنى الفاحش، والعبرة أن يكتشف الإنسان سر وجوده في الدنيا، وأن الدنيا ممر عبور، ودار نعيم واستمتاع زائل.
وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمها أبناء الملوك - أبناء فارس والروم - سُلط شرارها على خيارها).
والعاقل خصيم نفسه، قال الله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.