د.محمد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، نبينا محمد الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
استكمالاً لما تحدثت عنه في المقال السابق من خضوع الآيات الكونية لقدرة الله وإرادته ننبه في هذا المقال..
.. إلى أمر مهم وهو امتناع إخضاع آيات الله لعقول البشر، ووجوب تسليم العقل لما دلت عليه النصوص الشرعية.
في هذا السياق ننقل طرفاً من كلام لسيد قطب في تفسير سورة الإسراء حيث توسع فيها ليبيّن أن البشر يجب ألاّ يخضعوا الآيات الكونّية لمفهوم عقولهم؛ لأنّهم؛ ما قدروا الله حقّ قدره، وإنما ينبغي تسليم الأمور في الغيبيّات لمشيئة الله وقدرته، وعدم إخضاعها لأحاسيس البشر الضّعيفة القاصرة، وخاصة في كل كائن ضعيف في نظرنا، خلقه الله، خاصّة وأننا لا ندرك أموراً كثيرة، منها تسبيح هذه المخلوقات المتناهية في الصّغر يقول سبحانه: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (44) سورة الإسراء.
وقد بان لنا شيء من بعض لُغات هذه الكائنات الحيّة، التي بدأ المختصون في علم الحيوان، يفكّون -بما علمهم الله- رموزها ليلجوا باباً كان مجهولاً ما وراءه، وهذا من علم الله الذي يفتحه لمن يشاء مِنْ عباده، حتى يزداد الإيمان بالله، وعجائب قدرته، مثلما علمّ الله أنبياءه، ما لم يكونوا يعلمونه، وقال عن صفوته من خلقه صلى الله عليه وسلم، وهو الأميّ: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (113) سورة النساء.
ففهم لغة جذع النخلة، الذي كان يخطب عليه، فحّن كالطفل بعد ما تركه للمنبر الذي عمِل له، فضمّه حتى هدأ، ومثلما قال للجبل الذي اهتزّ، وعليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وقال له: اثبت أحد فإنّما عليك: نبيّ وصدّيق وشهيدان، وغير هذا من الوقائع التي تبرز فيها الخوارق التي هي من عجائب قدرة الله، وتزيد المتأمل يقيناً وإيماناً بقدرة الله جل وعلا، وعبرة تأصل اليقين، وعبرة لمن أراد أن يعتبر، مثلما قال الله في قصة إحياء الموتى، على لسان نبيّ الله إبراهيم عليه السلام، لما سأل ربّه: كيف يحي الموتى؟ فقال الله: {أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (260) سورة البقرة.
فأرشده ربه إلى طريقة حسّية، تثبت إيمانه، وهي أيضاً من الخصائص التي منحها الله لنبيّه عيسى عليه السلام.
وعلّم الله نبيّه سليمان عليه السلام، منطق الطير، ولغة النمّل ومخاطبة الهدهد، فقد جاء في الكتاب الكريم قول النملة وهي من أصغر مخلوقات الله، لما شاهدت جحافل موكب النبّيّ سليمان عليه السلام: من الجن والإنس والطير وغيرها، موجهة القول لعالم النمل ومحذّرة: قالت نملة: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (18) سورة النمل.
وقد استدل بعض المحقّقين من كلمة {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ}، أن عالم النمل مخلوق من مادّة زجاجيّة؛ لأنه هو الذي يتحطم، ولو كان من عظام أو حديد لجاءت عبارة أخرى: كالتكسير والتمزيق وما إليها.. والله أعلم.
ثم استمرّت الآية الكريمة، في استكمال حديث النملة، وانعكاسه على سليمان عليه السلام، فكان الردّ من سليمان الذي أسمعه الله إيّاه على قولها: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (19) سورة النمل.
قال ابن كثير في تفسيره رحمه الله على هذه الآية الكريمة: إن وادي النمل هذا كان في أرض الشام، وأن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذّباب أو غيره، وعن نوف البكاّلي أنه قال: كان نَمْلُ سليمان أمثال الذباب، والغرض أن سليمان عليه الصلاة والسلام، فَهم كلامها، وتبسّم ضاحكاً من ذلك، وهذا أمر عظيم جداً، ثم أورد حكاية بسندها إلى الصّديق، بأن سليمان عليه السلام، خرج يستسقي فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: (اللهم إنا خلق من خلقك، ولا غنى بنا عن سقياك، وإلاّ تسقنا نهلك، فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم). ثم أورد حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قرصت نبياً من أنبياء الله نملة، فأمر بقرية النّمل فأحرقت، فعاتبه ربه، بأن أوحى إليه: في أنْ قرصتك نملة، تهلك أمة من الأمم تسبح؟ فهلاّ نملة واحدة) تفسير (ابن كثير 3:261).
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد خاطب جبل أحد لماّ ارتّج فسكن، وجذع النخلة الذي كان يخطب عليه لماّ تحوّل عنه إلى المنبر، عندما حنّ إليه، فنزل من المنبر الجديد، وضمه إليه حتى سكن وهدأ.. والجمل الذي شكا إليه ظلم صاحبه (فنقل شكواه)، فإنّ موسى عليه السلام، وكان حيياً، ولا يحبّ أن يطلّع على عورته أحد، ويتستر عند الوضوء والغسل، بخلاف معهود قومه، فأشاعوا عنه أشياء ذكرها المفسرون للآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا} (69) سورة الأحزاب.
ومما قالوه هم عنه أنه آدر، قال ابن الجوزي في تفسيره: فذهب يوماً يغتسل ووضع ثوبه على حجر ففرّ الحجر بثوبه، فخرج في طلبه، ومرّ به على مجمع لبني إسرائيل، فرأوه وقالوا: والله ما به من بأس، والحديث مشهور في الصحاح كلها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ثم قال: قال ابن قتيبة: والآدر عظيم الخصيتين، بمرض فيهما: (زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 6: 425).
وقد بعث لي أحد الإخوان، من القاهرة قصاصة من جريدة الأهرام القاهرية تاريخها 20-1-2007م فيها قصة سليمان مع النملة، وهذا نصّها: ذكروا أن سليمان كان جالساً على شاطئ بحر، فبصر بنملة تحمل حبة قمح، تذهب بها نحو البحر، فجعل سليمان ينظر إليها، حتى بلغت الماء، فإذا بضفدعة قد أخرجت رأسها من الماء، ففتحت فاها فدخلت النمّلة مع حبّتها، وغاصت الضفدعة في البحر، ساعات طويلة، وسليمان يتفكر في ذلك متعجباً، ثم خرجت الضفدعة من الماء، وفتحت فاها، فخرجت النملة، ولم تكن معها الحبة.
فدعاها سليمان عليه السلام وسألها عن شأنها وأين كانت؟ فقالت: يا نبي الله، إنْ في قعر البحر الذي تراه صخرة مجوّفة، وفي جوفها دودة عمياء، وقد خلقها الله هناك، فلا تقدر أنْ تخرج منها؛ لطلب معيشتها، وقد وكلّني الله برزقها، فأنا أحمل رزقها، وسخرّ الله تعالى هذه الضفدعة، لتحملني، فلا يضرني الماء في فيها، وتضع فاها على ثقب الصخرة وأدخلها، ثم إذا أوصلت رزقها إليها، خرجت من ثقب الصخرة إلى فيها، فتخرجني من البحر.
فقال سليمان عليه السلام: وهل سمعت لها من تسبيحة؟ قالت: نعم، تقول: يا من لا ينساني في جوف هذه اللجّة برزقك، لا تنس عبادك المؤمنين برحمتك.أ.هـ.
وعجائب قدرة الله في مخلوقاته، نماذجها كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، وأكتفي بهذه النّماذج التي نرجو أن يكبر بها إيماننا بالله وبقدرته، وأن يزداد رسوخاً ويقيناً.
والشاعر يقول:
وفي كل شيء له آية
تدلُ على أنه الواحدُ