د.محمد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، نبينا محمد الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
أمر الله عز وجل بعبادته وطاعته، وفِعْل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، وحد حدوداً لمصالح عباده، ووعد من أطاعه بالسعادة في الدنيا، وبالجنة في الآخرة، وتوعد من عصاه بالشقاء في الدنيا، وبالنار في الآخرة.
فمن أذنب فقد فتح الله له باب التوبة والاستغفار، ومن أصر على معصية الله، وتجاوز حدوده بالتعدي على أعراض الناس وأموالهم وأنفسهم، فهذا لابد من كبح جماحه بإقامة حدود الله التي تردعه وتردع غيره، وتحفظ الأمة من الشر والفساد في الأرض، والحدود كلها رحمة من الله، ونعمة على الجميع.
فهي للمحدود طهرة من إثم المعصية، وكفارة عن عقابها الأخروي، وهي له ولغيره رادعة عن الوقوع في المعاصي، وهي ضمان وأمان للأمة على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وبإقامتها يصلح الكون، ويسود الأمن والعدل، وتحصل الطمأنينة.
قال الله تعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى سورة طه، الآيات 123-127.
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كَمَا أَخَذَ عَلَى النّسَاءِ: «أَنْ لاَ نُشْرِكَ بِالله شَيْئاً، وَلاَ نَسْرِقَ، وَلاَ نَزْنِيَ، وَلاَ نَقْتُلَ أَوْلاَدَنَا، وَلاَ يَعْضَهَ بَعْضُنَا بَعْضاً». فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى الله، وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدّاً فَأُقِيمَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفّارَتُهُ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ إلَى الله، إنْ شَاءَ عَذّبَهُ، وَإنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ. متفق عليه.
ولتعلم أخي القارئ الكريم أن هناك فرقا بين القصاص والحدود:
القصاص: هو حق للمجني عليه إن كان حياً أو لأوليائه من بعده، ويحقق الحاكم طلبهم، وقد يعفى عنه إلى بدل كالدية، أو يعفى عنه بلا مقابل؛ لأنه حق للآدمي.
أما الحدود: فهي حق من حقوق الله سبحانه وتعالى فأمرها إلى الحاكم، فلا يجوز إسقاطها بعد أن تصل إليه، ولا تجوز الشفاعة فيها مطلقاً، لا بعوض ولا بدون عوض.
وللشريعة الإسلامية أهداف في هذه الحدود لتحقق ما يلي:
ردع الناس، وزجرهم عن اقتراف الجرائم، وعدم تكرار الجريمة مرة أخرى، ومنع وقوعها، ومنع المفسدة، وتهذيب وإصلاح الجاني بدون تعذيب، وعدم إشاعة الفاحشة، وقطع دابر الجريمة، وعدم التعدي وأخذ الثأر، وإطفاء نار الحقد والغل لدى المعتدى عليه، وحصول الأمن، وتحقيق العدل بين الناس في حياتهم.
قال الله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ سورة البقرة الآية 179، وقال الله تعالى: قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم ٍ سورة المائدة الآيتان (15، 16).
والشريعة الإسلامية اشتملت على أحسن المبادئ والعقوبات التي تكفل سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وهي: العدل بين الناس، وكرامة الإنسان، والمصلحة العامة وحفظ الأمن، والمساواة بين الجريمة والعقوبة، والستر على المخطئ غير المجاهر، ونصحه رحمة للجاني من المجتمع الذي يعيش فيه.
قال الله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة الأنعام الآية54، وقال الله تعالى:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ سورة النحل الآية90، وقال الله تعالى: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ سورة الشورى الآية (40).
ومقاصد الإسلام الكبرى تنحصر في خمسة أمور: حفظ الدين.. وحفظ النفوس.. وحفظ النسل.. وحفظ المال.. وحفظ العقل، فإذا حفظت الأمة هذه الأصول سعدت في الدنيا والآخرة، وإذا ضيعتها شقيت ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبإقامة الحدود والقصاص يتم حفظ هذه الضرورات وحمايتها، فبالقصاص تصان الأنفس.. وبإقامة حد الزنا والقذف تصان الأعراض.. وبإقامة حد السرقة تصان الأموال.. وبإقامة حد الخمر تصان العقول.. وبإقامة حد الحرابة يصان الأمن وبإقامة الحدود كلها يصان الدين كله، والحياة كلها، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} سورة المائدة الآية 3، وقال الله تعالى: {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} سورة الأنعام، الآية 104.
وعلى ولاة أمور المسلمين إقامة الحد إذا ثبت على من اقترفه؛ صيانة للأمن، ودفعاً للفساد، وحماية للحقوق، وزجراً للمجرمين كما قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ سورة المائدة، الآية38، وقال تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ سورة النور، الآية3. وقال الله تعالى: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سورة المائدة، الآية 33.
وكل هذه الحدود هي امتثال وطاعة لأمر الله في إقامتها، لا التشفي والانتقام، بل هي دفع الفساد عن الخلق، وإصلاح الناس.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، عن عائشة رضي الله عنها: ((أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ رضي الله عنه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟!)، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)) رواه البخاري ومسلم.
فمنذُ أن وحد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه المملكة، قام على تطبيق الشريعة الإسلامية، بدون تهاون، طاعة لله، وتصديقاً واتباعاً لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد عين القضاة الذين يحكمون بالعدل والمساواة بين الناس، وطبق الحدود التي وجبت على الأمة، واتبعه أبناءه في ذلك كابراً عن كابر، فكانوا على نهجه، رحم الله من مات منهم وأطال عمر من بقي.
فنحن الآن بحمد الله في رغد من العيش وفي أمن وأمان، في ظل قيادتنا الحكيمة التي تطبق الشريعة الإسلامية، وممثلة في ولي أمرنا «خادم الحرمين الشريفين» الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله ورعاه لما فيه خير صلاح البلاد والعباد، وولي عهده، وولي ولي العهد، أمد الله في عمرهم على طاعته وعلى خير عمل، فقد طبقوا الحدود الشرعية، ولا تأخذهم في الله لومة لائم؛ لأن هذا شرع، شرعه الله تعالى على المسلمين، وعلينا إنفاذه بدون قيد أو شرط.
وما قامت به المملكة العربية السعودية من تنفيذ حكم الحد بـ(47) إرهابياً، لهو تحقيق للشريعة، وليست ضد مواطن سعودي ((باختلاف المذاهب)) وإنما هو أمر من أوامر الله التي أمر بها عباده، ولا يجوز الشفاعة فيها، فهي حق من حقوق الله تعالى.
فإن من قام بتخريب وترويع الآمنين في هذه البلاد الطيبة المباركة، يجز على ما فعله، من قتل، وتخريب، وتحريض، ودعم لتجمعات إرهابية.. بما حكمه الله في كتابه الكريم، جزاء خيانته لولي أمره ووطنه وأهله وناسه، والله سبحانه في كتابه الكريم يقول: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ سورة البقرة (179)، وما جاء عن أنس رضي الله عنه: (( أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الإسْلامِ، فَاسْتَوْخَمُوا الأرْضَ وَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَلا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إِبِلِهِ، فَتُصِيبُونَ مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَقَالُوا: بَلَى، فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَصَحُّوا فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَطَرَدُوا الإبلَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُدْرِكُوا فَجِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسُمِرَ أَعْيُنُهُمْ، ثُمَّ نُبِذُوا فِي الشَّمْسِ حَتَّى مَاتُوا)). متفق عليه، فليس للإنسان أي شفاعة، أو حق في تخفيف عقوبة، في حد من حدود الله.
أدام الله عز بلادنا، وحفظها من كيد الكائدين ومن حسد الحاسدين، وأمد الله عمر ولي أمرنا، لما فيه صلاح العباد والبلاد، اللهم آمين.