د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
أكَّدتُ في الجزء الأول أنَّ طبيعة العلاقة التي تربط الناقد بالمبدع قد تؤثِّر في الحكم النقدي الذي يصدره تجاه النص، وهو ما لا ينبغي أن يكون، وأوردتُ نماذج من تراثنا الأدبي تثبتُ أنَّ هذا النوع من العلاقة المؤثرة موجودٌ منذ القدم..
وإذا كانت النماذج السابقة تكشف عن العلاقة الطيبة الحسنة التي تنتج عنها أحكامٌ تحمل كثيراً من المجاملات التي تخدع المتلقي، وتجعل القبيح الرديء في عينه جميلاً بديعا، فإنَّ هذا الجزء سيحاول أن يبحث في نماذج أخرى عكس ذلك، حيث تظهر فيها العلاقة المتوترة أو العدائية مؤثِّرةً بشكل أكبر، منتجةً أحكاماً نقديةً في غاية الظلم والتعسُّف.
فمن ذلك ما ورد في (الموشح) من أنَّ الفرزدق سأل زوجته النوَّار: «كيف شعري من شعر جرير؟» فقالت: «شَرَكَكَ في حُلْوه، وغَلَبَكَ على مُرِّه»، ورغم ما يظهر من هذا الحكم من دِقَّةٍ وبراعة، إلا أنَّ المرزباني لم يطمئنَّ إليه، حيث عقَّب عليه بقوله: «ولا يُقبل قول النوَّار على الفرزدق؛ لمنافرتها إياه»، وهو دليلٌ بارز على تنبُّه النقَّاد إلى خطورة نوع العلاقة بين طرفي الإبداع: الناقد والمبدع، وأنَّ ذلك قد يؤدي إلى أحكامٍ نقديةٍ تمويهية، بعيدةٍ عن العلمية والإنصاف.
ومن طريف ما يُروى في هذا السياق ما رواه الأصمعي عن نفسه حين قال: بعث إليَّ محمد بن هارون، فدخلتُ عليه وفي يده كتابٌ يُديم النظر فيه، ويتعجَّب منه، فقال لي: يا عبدالملك؛ أما تعجب من هذا الشاب وما يجيء به؟ قلتُ: من هو؟ قال: عباس بن أحنف، ثم رمى إليَّ الكتاب، فإذا فيه شعرٌ قاله عباس، وهو:
إذا ما شئتَ أن تصنعَ
شيئاً يُعجِبُ الناسا
فصوِّر هاهنا فوزاً
وصوِّر ثمَّ عباسا
قال الأصمعي: وكان بيني وبين عباس شيء، فقلتُ: مُسترَقٌ يا أمير المؤمنين، قال: ممن؟ قلتُ: من العرب والعجم، قال لي: ما كان من العرب؟ قلتُ: رجلٌ يُقال له عمر، هوي جاريةً يقال لها قمر، فقال:
إذا ما شئتَ أن تصنعَ
شيئاً يُعجِبُ البشرا
فصوِّر هاهنا عمراً
وصوِّر هاهنا قمرا
قال: فما كان من العجم؟ قلتُ: رجلٌ يُقال له فَلْقا، هوي جاريةً يقال لها روق، فقال:
إذا ما شئتَ أن تصنعَ
شيئاً يُعجِبُ الخَلْقا
فصوِّر هاهنا روقا
وصوِّر هاهنا فَلْقا
فبينما نحن كذلك إذ جاء الحاجب فقال: عباس بالباب، فقال: ائذن له، فدخل، فقال: يا عباس؛ تسرق معاني الشعر وتدَّعيه! فقال: ما سبقني أحد، فقال محمد: هذا الأصمعي يحكيه عن العرب والعجم، ثم قال: يا غلام؛ ادفع الجائزة إلى الأصمعي، فلما خرجنا قال لي العباس: كذَّبتني وأبطلتَ جائزتي، فقلت: أتذكر يوم كذا؟ ثم أنشأتُ أقول:
إذا وترتَ امرأً فاحذرْ عداوتَه
من يزرع الشوكَ لا يحصد به عنبا
وما أسوأ هذا النوع من النقد الذي يتخذه صاحبه وسيلةً للثأر، خاصَّةً إذا استغلَّ الناقد مكانته عند أصحاب الشأن للنيل من خصومه، حتى لو أسرَّ في نفسه الاعتراف بتفوقهم.
وأظنُّ أنَّ أبرز العلاقات المتوترة التي ترتفع فيها احتمالية إنتاجها لأحكامٍ ظالمة ليس فيها رائحة للصحة والعدل تلك التي تحدث حين تشتعل الغيرة في قلب الناقد، وتتوقد نيران الحسد بين أضلاعه، وهنا يتفاجأ المتلقي الحاذق بأحكامٍ نقديةٍ لا يمكن إخفاء ما فيها من تحاملٍ وعدم إنصاف، بل إنَّ الناقد الحاسد لا يكتفي بازدراء النص بهتاناً والحكم برداءته ظلماً وعدوانا، بل يسعى جاهداً إلى منع وصول النفع إلى المبدع، وتمني زوال كلِّ ما لديه من خيرٍ ونعمة.
ولعلَّ أبرز الروايات التي تؤكد وجود هذه العلاقة في تراثنا العربي وتشير إلى ضررها الكبير في التأثير على الحكم النقدي ما حصل لنصيب بن رباح فيما يرويه عن نفسه، حيث لقي الفرزدق، فأراد أن يستشيره في قصيدة نظمها ليلقيها على عبدالعزيز بن مروان، فقال له الفرزدق حين سمعها: ويلك! أهذا شعرك الذي تطلب به الملوك؟ قال: نعم، قال: لستَ في شيء، فإن استطعتَ أن تكتم هذا على نفسك فافعل، فتصبَّب نصيب عرقا، ثم لقيه رجلٌ من قريش كان قد سمع إنشاده فقال له: ويحك! أهذا شعرك الذي أنشدته الفرزدق؟ قال: نعم، فقال: قد والله أصبتَ، والله لئن كان هذا الفرزدق شاعراً لقد حسدك، فإنَّا لنعرف محاسن الشعر، فامضِ لوجهك ولا يكسرنَّك».
ولا يخفى على مَن له أدنى اطلاع على تراثنا النقدي قصة إسحاق الموصلي الذي أنشد الأصمعي قوله:
هل إلى نظرةٍ إليك سبيلُ
فيروى الصدى ويشفى الغليلُ
إنَّ ما قلَّ منك يكثر عندي
وكثيرٌ ممن تحبُّ القليلُ
فقا ل له الأصمعي: هذا الديباج الخسرواني، هذا الوشي الإسكندراني، لمن هذا البيت؟ فقال إسحاق: إنه ابن ليلته، فتبيَّن الحسدَ في وجه الأصمعي الذي بادره بقوله: أفسدته، أفسدته، أما إنَّ التوليد فيه لبيِّن!
وحين يخشى الناقد أن يؤثِّر نقدُهُ على علاقته بالمبدع، نراه مضطراً إلى مجاملته؛ خوفاً من خسارة هذه العلاقة، وانقلابها إلى عداوة، فيحدث ما لا يُحمد عقباه، ومن نماذج ذلك ما روي عن أبي عمرو بن العلاء حين حكم على بيت الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلا مسحةً أو مجلَّفُ
فقال عمرو: لا أعرف له وجها، لكنه تراجع عن قوله حين قابل الفرزدق، وقال: أصبتَ، هو جائزٌ على المعنى أنه لم يبق سواه!
ولم تسلم أحكام الأخفش النقدية من تأثير هذه العلاقة، فقد رُوي عنه أنه بكى من تهديد بشار له بالهجاء؛ لأنه عاب شعره وغلظ في نقده له، فذهب أصحابُهُ إلى بشار يُكذِّبون ما قال فيه، وسألوه ألا يهجوه، فقال بشار: وهبته للؤم عرضه، فكان الأخفش بعد ذلك يحتجُّ في كتبه بشعره، ليبلغه ذلك فيكفَّ عنه!
* * *
إنَّ مثل هذه النماذج النقدية تؤكد لنا بوضوح صعوبة تحرُّر الناقد من ظروفٍ خارجيةٍ يمكن أن يكون لها أثرٌ كبيرٌ في انحراف حكمه النقدي على النصِّ الإبداعي، وإذا كان هذا المقال بقسميه قد خصَّ صلة الناقد بالمبدع بوصفها من أهم المؤثرات على الحكم النقدي، فإنَّ هناك مؤثرات أخرى كثيرٌ منها لا يمتُّ إلى العلمية والعدل والصحة بأدنى نسب، مما يجعل القارئ الحصيف والمتلقي الواعي لا يُسلِّم بكلِّ رأيٍ نقدي، ويحاول أن يُحكِّم ذائقته المدعومة بالموهبة والثقافة، متنبهاً قدر الإمكان إلى ما يمكن أن يؤثر على الناقد من ظروفٍ واعتباراتٍ خارجية، ولعلَّ هذا ما جعل بعض المناهج النقدية تتطرَّف في معالجة هذه الإشكالية، وتدعو إلى ضرورة (موت المؤلف) عند معالجة النص الإبداعي.