د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
هل تنظر الجامعات حقاً إلى سوق العمل حين تختار تخصصاتها المنضوية تحت مظلتها؟ وهل تراعي هذه المؤسسات التعليمية احتياجات المجتمع حين تسمح بوجود هذه التخصصات بين جدرانها؟ وهل يدرس مسؤولوها هذه القضية الكبرى دراسةً وافيةً تبرز أهميتها؟ وهل تنظر لجانها التطويرية إلى هذا الأمر بالغ الأهمية نظرة استراتيجية طويلة المدى؟ وهل تدرك هذه الجامعات فعلاً أنَّ حاجة المجتمع وسوق العمل هما المحك في جدوى تدريس هذه التخصصات؟
أدرك تماماً أني لا آتي بجديدٍ حين أثير هذه القضية الخطيرة، كإدراكي أنَّ المسؤولين عنها لم ينظروا إليها نظرةً جادَّةً حتى الآن، والدليل على ذلك أنَّ مؤسساتنا التعليمية لا تزال ترزح تحت وطأة التخصصات النظرية التي أثبت التاريخ أنَّ سوق العمل لم يعد بحاجةٍ إليها، أو على الأقل مؤقتاً، ولستُ هنا أريد الحديث عن هذه المشكلة التي أحسبها أُشبعت تنظيرا، وإنما أريد أن أشير إلى تخصصاتٍ أعتقد أنَّ الجامعات تعيش في غيبوبةٍ عنها، رغم أنَّ سوق العمل في أمسِّ الحاجة إليها، خاصَّةً مع تطور الحياة، وسيطرة وسائل التقنية على كثيرٍ مجالاتها.
وقبل أن أكشف عن هذه التخصصات المهمة أشير في هذا السياق إلى ما ذكرته بعض الدراسات الحديثة من أنَّ المجتمع السعودي يعيش منذ فترةٍ حالةً من التغيرات والتطورات التي شملت معظم وجوه الحياة، تضمَّنت المجالات الصناعية والتعليمية، والإعلامية والصحية، إضاقةً إلى العديد من المشاريع الاقتصادية الكبرى، وقد قابل هذا التطور حاجةٌ قويةٌ وملحةٌ لتوفير القوى العاملة التي تلبي متطلبات هذا التوسع الكبير.
لكن هذا المجتمع أضحى «مدمناً» للأسف على العمالة الأجنبية، مع أنَّ غالبية مواطنيه من الشباب الذين يبلغون ما يقارب من 60% من الشعب، مما يعني أنهم قوى عاملة تتناسب مع احتياجات سوق العمل، غير أنَّ هناك أكثر من 7 ملايين أجنبي يعملون في السعودية في مجالات العمل المختلفة، وهو ما يفصح عن نوعٍ من الخلل في عملية ملائمة القوى العاملة السعودية لاحتياجات سوق العمل، وهو يمكن ما يمكن أن يُطلق عليه مصطلح (البطالة) بين أفراد المجتمع السعودي.
ولا شك أنَّ أبرز التهم في هذا الصدد تلك الموجهة إلى المؤسسات التعليمية؛ حيث إنَّ خريجيها غير ملائمين لسوق العمل، وأنَّ هذه المؤسسات لا تأخذ بعين الاعتبار حاجات سوق العمل وتبني سياستها بناء على ذلك، على أنَّ المؤسسات نفسها ذاتها تتهم قطاع الأعمال بعدم جديته في توظيف خريجيها، وأنها تبحث عن العمالة رخيصة الأجر والتضخيم من أرباحها على حساب سعودة القوى العاملة لديها.
ومهما يكن موطن الخلل فإني ألحظ بوضوح تقصير جامعاتنا في استحداث تخصصاتٍ تتصل اتصالاً مباشرا بحاجات المجتمع وسوق العمل، ومن أبرز هذه التخصصات تلك المتصلة بدراسة برامج التصميم الرقمي والجرافيكي، فلا أحد ينكر أنَّ للتصميم أهميةً كبيرةً في حياة الناس؛ لما له من أثرٍ مهم في توفير احتياجاتهم من منتجات فنية من شأنها أن تخاطب ذوق كل أفراد المجتمع، مما يسهم في تحقيق الرفاهية والناحية الجمالية.
والسؤال هنا: كم مؤسسة تعليمية أدركت أهمية تدريس هذه البرامج؟ وكم جامعة قررت افتتاح كليات متخصصة لتعليمها؟ بل هل لدينا أصلاً كليات تعتني ببرامج التصميم الرقمي والجرافيكي؟ وهل تدرك وزارة التعليم أهمية هذه البرامج وحاجة سوق العمل إليها؟ إنَّ كل شيءٍ حولنا في هذا العصر أضحى يعتمد على هذا النوع من البرامج، من السيارة، إلى علبة (الكاتشب) الصغيرة المرسوم عليها شعار الشركة، ولا أدري كيف يمكن إقناع الجامعات بأهمية هذه البرامج بعد كل هذا! ومع ذلك تتفاجأ بالتجاهل التام لها، حتى أدركتْ بعض المعاهد المتخصصة هذه الأهمية فشرعت تعقد الدورات لتعليمها بمبالغ طائلة؛ لأنها أدركت حاجة سوق العمل لها، أما المبدعون الذين استطاعوا إتقان شيء منها فكثيرٌ منهم كان يتعلم بصورةٍ ذاتية معتمداً على نفسه؛ لأنه لم يجد قسماً متخصصاً يحتضن موهبته وينميها، ومع هذا تمكَّن من اقتحام هذا الميدان والنجاح فيه؛ لأنَّ الساحة فيه شبه خالية، إلا من أجانب جاؤوا من الخارج، درسوا هذه البرامج في جامعاتهم، فوجدوا لدينا أرضاً خصبةً لتطبيق ما تعلموه، فحصلوا على المرتبات العالية والمكافآت المجزية، بينما شبابنا يعانون من البطالة!
إنَّ على مؤسساتنا التعليمية مواكبة التطور التقني الذي يمر به العالم اليوم، وإدراك أنَّ استثمار التكنولوجيا الرقمية هي السبيل الأهم نحو نهضة الأمم وحضارتها؛ ولهذا لا بد من أن تلتفت بجدية إلى هذه البرامج الخاصة بالتصميم الرقمي والجرافيكي، والسعي إلى استحداث كلياتٍ خاصة بها، وأقسامٍ تقوم بتدريسها بجودةٍ عالية.
وكم سعدتُ حين عرفتُ أنَّ كلية الإعلام و الاتصال بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية استحدثتْ مؤخراً قسماً للجرافيكس والوسائط المتعددة الذي عدَّته امتداداً طبيعياً لرسالة الكلية، وأوضحتْ أنَّ رسالة هذا القسم هي التأهيل الأكاديمي والمهني للكفاءات التي تعمل في المجالات الكثيرة والمختلفة التي تحتاج إلى الكفايات المتخصصة في الجرافيكس والوسائط المتعددة، وأنه يقدِّم برنامجاً علمياً متكاملاً في هذا التخصص، مركزاً على توظيف وسائل التقنية الحديثة في مجال التعليم، وتدريب منسوبي القسم والدارسين فيه على أفضل وسائل التعليم؛ ليتمكنوا من مواصلة دراساتهم الجامعية والعليا بتميز، وتحقيق التفاعل الحيوي مع المجتمع ومؤسساته.
إننا في أمسِّ الحاجة إلى افتتاح أقسامٍ كهذا القسم، فالزمن لا يتوقف، والعالم يسير بخطواتٍ سريعةٍ نحو النهضة والحضارة والتقدُّم، معتمداً على آخر ما توصل إليه العلم من وسائل التقنية الرقمية وبرامج التصميم الجرافيكي، وإذا ظللنا نتجاهل مثل هذه التخصصات المهمة التي تمكننا من اللحاق بركب الدول المتقدمة قبل أن تقضي على جزءٍ كبيرٍ من بطالة الشباب، وتلبي حاجة سوق العمل الذي يتعطش إلى متخصصين في مثل هذه البرامج التقنية، فإن نخدع أنفسنا، ونسيء إلى تعليمنا، ونصر على البقاء في مرتبةٍ متأخرةٍ لا تليق بنا ولا بسمعة وطننا الذي يحرص على التعليم، ويبذل الغالي والنفيس من أجل تقدمه، معولاً عليه في الرقي والنهضة والازدهار العلمي والحضاري.