د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
ما الذي يجعل بعض آراء النقاد غير مقنعة؟ وما السبب وراء كون بعض أحكامهم مفاجئةً وغير متوقَّعة؟ لماذا بعضهم يصف الجيد بالرديء والرديء بالجيد؟ وهل يمكن أن تكون بعض ممارساتهم النقدية خاضعة لظروفٍ غير علمية؟ وماذا يمكن أن تكون طبيعة هذه الظروف؟ وهل يمكن للناقد حينها أن يتخلَّص منها؟ بل هل يشعر أنه واقعٌ تحت سيطرتها حين أطلق حكمه النقدي؟
إنَّ الناقد بلا شك ينطلق في معالجته للنصوص من أسسٍ يؤمن بها، وأفكارٍ يعتقدها، ومخزونٍ فكريٍّ وثقافيٍّ تجمَّع في ذهنه، وتبلور في عقله، ليكوِّن في النهاية مجموعةً من القواعد والمعايير التي تكون محاكمةُ النصوص الإبداعية وفقها، وقراءتها على أساسها، وليس سرَّاً حين يقال إنَّ النافد عندما يقارب نصَّاً ويبغي فحصه، تتحكَّم فيه كثيرٌ من المؤثرات التي يكون لها أثرٌ حاسمٌ في طريقة نقده، وكيفية رؤيته للنص، وبدهيٌّ أن يكون تحديد الرأي النقدي فيه، وماهيَّة الحكم الذي يصدره عليه متأثراً بتلك العوامل.
غير أنَّ الإشكالية هنا تحصل حين يفقد الناقد الموضوعية، ويتفلَّت منه الإنصاف، ويسمح لاعتباراتٍ بعيدةٍ عن العلمية الصحيحة أن تحكم قبضتها عليه، فينتج عن ذلك آراءٌ وأحكامٌ غريبةٌ ومفاجئة، تبدو عليها آثار التصنُّع والانحراف عن الحق، والمشكلة الكبرى حين ينخدع بها القارئ فيُصدقِّها، فتتغير صورة النص الإبداعي أمامه، ويظهر له الجيد الحسن بصورة الرديء الغثيث، والعكس صحيح.
ولعلَّ من أهم هذه الاعتبارات غير الموضوعية: طبيعة العلاقة التي تربط الناقد بالمبدع، ونوعية الصلة التي تجمعهما، حيث تجبر هذه العلاقة بعض النقَّاد على إعطاء أحكامٍ غير منصفةٍ تجاه العمل الفني، فإن كانت العلاقةُ جيدةً أثنى عليه ومجَّده ورفعه فوق السماء حتى وإن كان النصُّ لا يساوي الحبر الذي كُتب به، وإن كانت متوتِّرةً أو سيئةً نظر إلى العمل نظرة الازدراء والتحقير، وأصدر حكماً برداءته وسخافته، حتى وإن كان في غاية البراعة والجمال.
والباحث في تراثنا الشعري يجد مجموعةً من النماذج التي تؤكِّد حضور هذا النوع من التأثر غير الموضوعي بطبيعة العلاقة التي تربط الطرفين، مما أسهم في وجود ممارساتٍ نقدية لا علاقة لها بالنقد العلمي الصحيح المنهجي المعلل، أساءت إلى سمعة هذا الفن الأدبي الجميل، وشوَّهت كثيراً من النصوص الجميلة في عيون ممن ينقصهم العلم والذوق.
فمن ذلك ما رواه الأصفهاني في (الأغاني) من أنَّ الزبير بن بكار قال: «أدركتُ مشيخةً من قريش لا يَزِنُون بعمر بن أبي ربيعة شاعراً من أهل دهره في النسيب، ويستحسنون منه ما كانوا يستقبحونه من غيره؛ من مدح نفسه، والتحلي بمودته، والابتيار في شعره»، وهي شهادةٌ واضحةٌ على هذا التأثير الذي يموِّه في الأحكام، ويخدع في الآراء.
وحين تصدر الشهادة النقدية من تلميذٍ في أستاذه، فمن المستبعد أن تتخلَّص هذه الشهادة من سيطرة المجاملة التي قد تؤدِّي إلى أحكامٍ غير منصفة، خاصَّةً إذا كان التلميذ معجباً بأستاذه، ويدين له بالفضل، ويعترف له بالشكر، كموقف البحتري حين قيل له في بعض شعره: أنت في هذا أشعر من أبي تمام، فقال: كلا والله، ذاك الأستاذ الرئيس، والله ما أكلتُ الخبز إلا به»؛ ولهذا كان أنصار البحتري لا يرضون حكمه في أبي تمام، كما يروي الآمدي في (الموازنة).
أما التوافق الفكري والتوجه السلوكي فهو صورةٌ أخرى من صور العلاقة التي ربما ربطتْ الناقد بالمبدع، فأنتجتْ أحكاماً لا يُطمئنُّ إليها، فهذا الأصفهاني يروي أنَّ حماد الراوية كان يفضِّل الأخطل على جرير والفرزدق، فقال له الفرزدق: إنما تفضِّله لأنه فاسقٌ مثلك! فقال حماد: لو فضَّلته بالفسق لفضلتك! ومع ما تحمله هذه الرواية من طرافةٍ وسرعة بديهة، فهي تشير أيضاً إلى أنَّ المبدع لديه شعورٌ بأنَّ مثل هذه التوجهات الفكرية والسلوكية يمكن أن تُخضِع الناقد تحت سيطرتها، رغم إنكار حماد لهذه التهمة.
ولعلَّ هذه القضية تذكِّرنا بما يحصل بين بعض نقَّادنا اليوم من تأثُّرٍ بالانتماءات الفكرية والتوجهات الدينية والمذهبية، فتراه يطبِّل لذلك المبدع لأنه يوافقه في الفكر والسلوك، ويسخر من آخر لأنه يخالفه في التوجه الديني أو المذهبي، فيضحي الأمر مجرَّد صراعاتٍ دينيةٍ وفكريةٍ لا علاقة لها بالإبداع، ويضيع وقت القارئ المسكين في متابعة هذه السخافات التي تتسبب في تشويه وجه هذا الفن الأدبي الجميل.