يتمدَّد فوق أرض وطني الحبيب أكثر من 30 جامعة بين حكومية وأهلية، تضم قرابة 500 كلية علمية، متوزِّعةً على 76 مدينة ومحافظة، وهي أرقامٌ تدلُّ على التطور الكبير الذي شهدته المملكة في مجال التعليم العالي في السنوات الأخيرة، والسؤال الذي أعرضه هنا: ما مدى التواصل الفعَّال بين هذه المؤسسات التعليمية الكبرى التي تستظلُّ تحت ظلِّ وطنٍ واحد؟ وما حجم التنسيق الذي يُفترض أن يتمَّ بينها في خدمة الوطن والارتقاء به نحو مستوى عالٍ من العلم والمعرفة التي تقود حتماً إلى التطور العلمي والحضاري في الجوانب كافة؟
إنَّ المتأمل في حال جامعاتنا يلحظ أنَّ كلَّ واحدةٍ منها تعمل باستقلاليةٍ تامَّةٍ دون أن يكون لها أيُّ علاقةٍ بالأخرى، وكأنها لا تدري بوجود غيرها، بل دون أن تفكر حتى بالنظر حولها، والتعرُّف إلى غيرها من أخواتها، ومحاولة التقارب والتواصل والتنسيق؛ سعياً إلى تقديم الأفضل والأجود.
كنتُ أعتب في الماضي على وزارة التعليم العالي بسبب تقصيرها في تنسيق هذه الجهود بين الجامعات، أو حثِّها على هذا التواصل على أكثر تقدير، غير أنَّ دمجها مع وزارة التربية والتعليم وجعلهما وزارةً واحدةً سيجعل الأمر في ظني أكثر صعوبة؛ لأنَّ حمل الوزارة سيكون أثقل مما قبل، ووزارة التعليم العالي سابقاً كانت مُقصِّرةً في كثيرٍ من الأمور تجاه الجامعات، فكيف سيكون تقصيرها بعد هذا الدمج؟ وكيف سيكون التفاتها إلى مثل هذه البرامج التنسيقية وهي مشغولةٌ بأمور التعليم العام التي لا تنتهي؟
إنَّ وجود جهةٍ في الوزارة تقوم بالتنسيق بين الجامعات أمرٌ في غاية الأهمية، حتى يمكن لهذه المؤسسات أن تقوم بدورها المناط بها والمأمول منها دون أن يكون بين الجهود تعارضٌ أو تناقضٌ أو تكرار، فالزمن يتقدَّم، والحضارات تزدهر، ولا بُدَّ لنا أن نواكب هذا التقدُّم والتطوُّر، ولن يتمَّ هذا بالعمل الفردي، والمبادرات التي تفتقد إلى التنسيق؛ لأنه ينبغي أن تؤمن كلُّ جامعةٍ أنَّ خدمة الوطن مُقدَّمةٌ على الإنجازات التي تكون على المستوى الشخصي.
ولا يلزم من هذا إلغاء التنافس بين الجامعات، أو الدعوة إلى عدم الاستقلالية، أو منع تميُّز التوجُّه، بل يجب أن يكون هذا، وإلا أصبحتْ جامعاتنا نسخاً مكرَّرةً لا فرق بينها، إنما المطلوب تنسيق الجهود، وتفعيل التواصل، والانفتاح على بقية المؤسسات، فمثلاً.. حين تزمع جامعةٌ ما على إقامة مؤتمرٍ أو ندوةٍ في موضوعٍ يهمُّ المجتمع ويخدم الوطن فإنه ينبغي أن يكون جديداً مبتكرا، من خلال التأكد من عدم سبقها إليه، أو التأكد من جِدَّة الزوايا التي ستُعالَج فيه إن كانتْ جامعةٌ أخرى قد أقامتْ مؤتمراً في الموضوع نفسه، حتى تضمن تقديم الجديد والمفيد، وتتأكد الوزارة أنَّ الأموال التي ستُصرف عليه ستكون في أمرٍ يستحقُّ ذلك، أما أن تتكرَّر الموضوعات وتُستنسخ المحاور حتى تضحي مؤتمراتنا صورةً طبق الأصل من بعضها، فهو أمرٌ يجعل من هذه المناسبات مجرَّد (بهرجاتٍ) إعلامية ومنافذ للهدر المالي المرهق.
ومن ثمرات التنسيق بين الجامعات تقارب المستوى العلمي بين مخرجات الكليات ذات التخصُّص الواحد، وإلا فما معنى أن تُعرفَ كليةٌ ما في جامعةٍ معينةٍ بمخرجاتٍ قويةٍ متمكنةٍ قادرةٍ على الانخراط في سوق العمل، بينما ترى مخرجات ذات الكلية في جامعةٍ أخرى ضعيفةً وغير مؤهلة، وليس في سببٍ في رأيي لهذا التفاوت إلا انعدام التنسيق بين الجامعات وكلياتها في البرامج الدراسية ومفردات المناهج ومعايير اختيار أعضاء هيئة التدريس وغير ذلك من الأمور التي تضمن تقارب المستويات العلمية للمتخرجين في القوة والكفاءة والتميز.
ومن الإنجازات التي يمكن أن يحققها تنسيق الجهود بين الجامعات جمع الرسائل العلمية تحت سقفٍ واحد، بحيث تتولى الجهة المنسقة في الوزارة مسؤولية جمع كلِّ رسائل الماجستير والدكتوراه التي صدرت عن الجامعات في موقعٍ شبكي واحد، بعد تصنيفها وفهرستها ومتابعة تحديثها بصورة مستمرة، مما يسهل على الباحثين الإفادة منها، والتأكد بواسطتها من جِدَّة ما يُقدِّمونه من دراسات.
إنَّ هذه النتائج التي يمكن تحقيقها من خلال زيادة التنسيق بين جامعات مملكتنا الحبيبة ما هي إلا نماذج مما يمكن أن يتحقَّق من خلال هذا التنسيق، والالتفات إلى تكامل الجهود وتعاضدها؛ لتقديم التعليم الجيد لطلابنا، وتعزيز البحث العلمي، وتقديم أجود الخدمات للمجتمع.
- الرياض
omar1401@gmail.com