فيصل أكرم
(إلحاقاً بمقالة: الكتابة في مصر)
* *
فور نشر مقالتي السابقة (الكتابة في مصر) صباح السبت الماضي، عاتبني بعض الأصدقاء في رسائل إلكترونية وهاتفية، متصورين أنني (أقلب الدنيا) - بحسبهم - من أجل خطأ إملائي صغير وقع فيه مؤلف شاب وهو ينقل بيتين لنزار قباني إلى كتابه!
هذا الظنّ كله إثم، لا بعضه وحسب. فالمقالة تنقل مشهداً رأيته يهيمن على الكتابة الجارية في مصر الآن. ولم أضرب سوى أمثلة بسيطة لأبسط ما يمكن أن نطلق عليه (كارثة) حتى أقدّم حسن النوايا وقلة الحيلة على كل مقاصد أخرى قد تكون خطيرة وقد لا تكون.
الآن سأذكر أمثلة أخرى، وكنتُ في غنى عن ذكرها لو أننا نقرأ ما بين السطور كما كنا دائماً، ولكن يبدو أن الزمن تغير فعلاً وأصبحنا لا نكمل قراءة السطور ناهيك عمّا بينها:
يحدث في مصر الآن، صدور أشياء تحت مسمى (ترجمة).. وهي ليست الترجمة المعروفة من لغة إلى لغة أخرى.. بل من (العربية الصحيحة) إلى (العامية المصرية).. وقد انتهكت تحت هذا المسمى غير الصحيح بعض روائع الكتب العربية، مثل (رسالة الغفران) للمَعَرّي، أو (مقدمة ابن خلدون) أو (ديوان ابن الفارض) وربما (لامية العرب) للشنفرى؛ فتخيّل.. أن يستبدل المطلع (أقيموا بني أمّي صدورَ مطيّكم) إلى (خليكوا يا ولاد خالتي هنا)!
صحيح أننا، في دول الخليج، نواجَه دائماً باتهامات تزعم أن كتاباتنا في أكثرها (أشعار نبطية) وربما يرجع ذلك إلى رواج ذلك النوع من الكتابة باللهجة المحكية في منطقة الخليج نظراً لأن معظم كاتبي تلك الأشعار النبطية (أو العامية) هم من الأمراء والشيوخ في المنطقة، ولا يمكن إنكار دور النفوذ المجتمعي في رواج الكلام وانتشاره، كما أن معظم تلك الكلمات أصبحت أغنيات مشهورة لمطربين ومطربات من الخليج والدول العربية كلها.. وهذا ما يغطّي أحياناً على كل المنجزات الشعرية الصحيحة – ولا أقول الفصيحة – عندنا. ومع ذلك فلنطرح السؤال: هل قرأنا يوماً عن كتاب في الفكر أو الأدب أو السيرة أو التاريخ أو السياسة أو الفلسفة أو العلوم الإنسانية أو التأملات الكونية أو غيرها من صنوف الكتابة – عدا الشعر المحكي والكلمات الغنائية - صدر مكتوباً باللهجة الخليجية المحلية، مثلاً؟!
لم يحدث ذلك وأرجو ألاّ يحدث أبداً، فأسباب حدوثه معدومة تماماً بالنسبة لمنطقة الخليج وبالنسبة لمصر أيضاً، فلماذا يحدث الآن في مصر؟!
نرجع بالذاكرة لحدوث مثل هذا – تقريباً – في لبنان، عندما أعلن الشاعر سعيد عقل (1912 – 2014) عن طرحه لهذا التحوّل وتبنيه لمشروع تحويل الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني – أو الفينيقي ربما – واستخدامه في الكتابة بالمحكية اللبنانية (سمّاها أبجدية القومية اللبنانية) وعلى ما قوبلت به دعواه تلك من استغراب ورفض في ذلك الزمن – إبّان تبعات الحرب العالمية الثانية ونكبة احتلال فلسطين وارتباك الأوضاع في لبنان – نجد الآن لسعيد عقل – دون سواه – مبررات نفهمها.. فهو أوّلاً شاعرٌ وصل لقمّة المجد الشعري، وأحدث في الشعرية العربية تطوّرات لا ينكرها مثقف، واللغة العربية بالنسبة إليه تجري فيه مجرى الدماء ويتنفسها كالهواء. تلك أشياء إذا ما أخذناها بعين الاعتبار، مع ما كان يجري من خطر يتغوّل ويكاد يفترس بلده الصغير الذي رآه وآمن بأنه أعظم البلدان في عينيه، فسنجد له من المبررات ما يكفي لنفهم أسباب فكرته لا لنعمل بها!
أما ما يحدث في مصر الآن، فلا مبرر له سوى الضعف اللغوي وعدم القدرة على الكتابة الصحيحة، وقد ابتدأ ذلك بإرهاصات ظهرت في السنوات الأخيرة معلنة عن أخطاء إملائية ولغوية فادحة تتصدر عناوين الكتب، وبعض تلك الكتب كان موجهاً للأطفال.. والكل يعرف أن الكتابة للأطفال هي المسؤولية اللغوية بعينها، لأن كل عبارة مكتوبة للطفل هي بمثابة درس تعليمي، وليس مجرد تسلية. والأمثلة كثيرة من عناوين مثل (الدجاجات الثلاثة الذكية، العشر فرسان بنفس اللباس، والإنصات للوالدان)! - تلك بعض النماذج، وقد غيّرتُ في أسماء كائناتها لأنني لا أتقصّد كتاباً معيناً أو دار نشر معينة ولكنني فقط أريد إيضاح فداحة الأخطاء في (عناوين) الكتب الصادرة بكثرة، حتى أنك تجد أكثر من خطأ في عنوان كتاب واحد أخطر ما فيه أنه موجه للأطفال. فمن هنا – كما أرى – حدث الانعطاف العكسي، بدلاً من أن يكون تجاه تصويب الأخطاء والاجتهاد في تعلّم اللغة ومن ثم إتقانها كتابة، كان الالتفاف حول الأخطاء بالهروب من اللغة الصحيحة كلها والتوجه نحو (اللهجة المحكية – أو العامية المصرية) بالكتابة، وتجاوز ذلك إلى (ترجمة) المكتوب تراثاً عربياً خالداً وتحويره إلى أشياء عجيبة. فهل هذا معقول؟ وهل وصل الدافع لكتابة مقالتي السابقة؟!
لن أسأل عن دور (المجمع اللغوي) في القاهرة، ولا عن غيره في التصدي لهذه الكوارث غير الطبيعية، فأدباء مصر وأهل الكتابة الحقيقية فيها موجودون ولكنهم ربما لم يعودوا من مرتادي المكتبات التجارية الحديثة ولم يطالعوا ما طالعتُ فيها من عجائب مؤسفة.
لن أزيد ولا أزايد، ولكن.. فقط أكتبُ ما كتبتُ لعلّ أحداً يقرأ. وأختم بما ختمت به مقالتي السابقة: أنا متأسف جداً حين أقول هذا الكلام، ولكنني أتصوّر أن كل غيور على الكتابة واللغة، وكل محب لمصر وثقافة مصر، سيؤيد كلامي ويتأسّف مثل أسفي.