حين كتبتُ المقالة الصادمة، هنا في الجزيرة الثقافية، بتاريخ 22 ديسمبر 2008 وعنوانها (صدمة في الجناح) وأوضحت فيها بالتفصيل (أيها المؤلف السعودي: أنت لست هناك)!.. لم أقل إلا حقيقة ما شاهدته في الجناح السعودي بمعرض بيروت الدولي للكتاب تلك الدورة، غير أن المقالة تسببت لي في مضايقات كنتُ في غنىً عنها، لأنني من الأساس لستُ ممن يعوّلون على شيء من كل ذلك؛ وقد تعلمتُ الدرس.
وفي الفترة الأخيرة وضعتني المصادفات بالقرب من معرضين دوليين للكتاب، فزرتهما زيارتين خاطفتين، وتجنبتُ حتى المرور من ناحية (الجناح السعودي الرسمي) كي لا أضطر إلى كتابة مقالة مماثلة تسبب لي مضايقات أخرى، ليس خوفاً من شيء معين، بل هو الخوف من أشياء لم أستطع تعيينها!
حديثي الآن عن معرضين وثلاث صدمات.. سأختصره بداية بمعرض الشارقة الدولي للكتاب، الذي أقيم في إكسبو الشارقة من 4 إلى 14 نوفمبر الماضي، وقد تبدو الصدمة الأولى شخصية، غير أنها تنسحب على كثير ممن يضعون ثقتهم بحكم الصداقة ويكرّسون نتاجاتهم الأدبية لتصدر عن دار نشر واحدة (كبرى) بالعادة، ولكن حين يفاجئها المؤلف بزيارة غير متوقعة يكتشف كم هي (صغرى) في التعامل الصادق؛ فمنذ دقائق ثمة من يقول لك (كتبك في المقدمة) وحين تقف أمامه لا تجد إلاّ ارتباكاً واعتذارات لا تقدّم ولا تؤخّر!
أما الصدمة الثانية، فهي في معرض الشارقة أيضاً، وهي مضحكة عند النظر إلى المشهد كاملاً.. فلا أحد يدري من أشاع أن المعرض سيكون بطابع (إسلاميّ) هذه الدورة – ربما لأن الضيف المحتفى به في المعرض هو أمير منطقة مكة المكرمة - وجعل كل الناشرين، بما فيهم غير المسلمين وغير المنتمين إلى أيّ من الأديان يصبحون فجأة من أشد المتحمسين لكتب دعاة الدين فيعرضونها بأشكال بارزة، حتى لو لم تكن من إصدارات دورهم. يستعيرونها من الدور الإسلامية ويتنافسون في طرق عرضها من جهة، ومن جهة أخرى يفعلون الشيء نفسه مع كتب الشعر الشعبي في الاستعارة والتنافس على عرضها بشكل لم يكن متوقعاً أبداً؛ وإذا سألت أحداً منهم: لماذا؟ أجابك: لنبيع!
والله قلتُ لأكثر من ناشر وناشرة، حين سمعتُ منهم التشكّي بأن المعرض غير جيد: بل أنتم غير الجيدين. ونصحتهم أن يبيعوا الشاي والقهوة والمرطبات فهي تباع أسرع وأكثر طالما أنهم يبحثون فقط عن البيع السريع والكثير بلا مبدأ ولا شخصية ولا هدف!
قلتُ: اليوم غير الأمس. أعرف هذا وعرّفته وصفاً دقيقاً في مقالات سابقة، حين كانت دور النشر (الكبرى) تعمل لحسابات تصبّ فكرياً في اتجاهات تخدم مؤسسيها الأوائل أو مالكيها الحاليين من زعماء الأحزاب والتيارات والمذاهب سياسية كانت أو طائفية؛ غير أن تلك المصالح لم تعد صالحة الآن بالنسبة لتلك الزعامات التي باتت مكشوفة النوايا والأسرار، فتم التخلي عن دور النشر لعدم جدواها راهناً، وتركها تواجه مصيرها وتغطي تكاليفها من مبيعاتها وحسب، وهذا ما حدا بالدور، سواء في معارض الكتب أو حتى في التعامل المباشر مع المؤلفين والموزعين والمكتبات والقراء أيضاً، إلى اتخاذ البيع هدفاً وليس الطباعة ولا النشر.. ولا الثقافة ولا التكوين المعرفيّ.. فكل دار أصبحت على استعداد لاستعارة كتب لتوجهات تناقض توجهها الأساس، فقط لتبيعها بنسبة من الربح أو حتى طباعتها (طباعة مزوّرة) للبيع لا أكثر!
والصدمة الثالثة لا تختلف عن الثانية، فقد كانت في معرض بيروت الدولي للكتاب المقام حتى الأسبوع الماضي، فقد شاهدتُ فيه لافتات من الكتب على أغلفتها صورٌ لنجوم في مجالات بعيدة كل البعد عن الكتابة والكتاب، بأشكال لا تقول مضموناً سوى (الاستغلال) أو (البيع من أجل المال). سؤال: ألم يعد ثمة مكان للحياء عند مثل هؤلاء الذين نحسبهم ناشرين؟
فقط ثلاث صدمات ظاهرها خفيف وباطنها أخفُّ، إذا عرفنا التعامل بدراية مع متطلبات المرحلة؛ هي حصيلة زيارتين لمعرضين. قلتها ونحن على أبواب معرضين آخرين للكتاب، هما الأهم على كل الصُعد (معرض جدة ومعرض الرياض) وكل معرض والكتاب بخير.
- الرياض
ffnff69@hotmail.com