فيصل أكرم
أعرف مصر ومكتباتها منذ أكثر من ثلاثين عاماً (أيام سيف بن أعطى) وأدين لها بكثير من الفضل في تكويني المعرفيّ الأول؛ غير أنها الآن تبدو ليست هي.
ما الذي جعل الكتابة في مصر العربية تتخذ هذا المنحى الضارب في (اللهجة المحكية) وكيف تكون لهجة محكية بديلاً عن اللغة العربية؟!
حالات مؤلمة من الاستغراب تنتابني كلما دخلتُ الآن مكتبة في القاهرة، وما أكثر المكتبات التي تتخذ تصاميم (الكافيهات) لتجذب (السيّاح) وتجعلك – كقارئ - تشعر بالإعجاب قبل أن تتصفح الإصدارات.. فدور نشر كثيرة تجد لكل دار أكثر من مئة إصدار اثنان منها فقط أو ثلاثة على الأكثر مكتوبة باللغة العربية التي تجمعنا كلنا، وبقية الإصدارات مكتوبة – وليتها مكتوبة كتابة صحيحة – باللهجة المحكية وكأنك وأنت تقرأ – إذا استطعت أن تقرأ! – تستمع إلى ثرثرة من أي شخص في الشارع ويقول أيَّ كلام!
في العصور كلها، لم تكن اللهجة المحكية لغة كتابة، وإن كانت فكتابتها تقتصر على الأغنية أو الإنشاد المسرحي أو الاستعراضات البهلوانية، ولا يمكن لكلمات أغنية أن تعيش إلا بلحن موسيقي وغناء، طربياً كان أو خفيفاً، أما الكلمات المكتوبة فقط باللهجة المحكية فإن كانت متقنة شعرياً – إيقاعاً على الأقل - ستجد من يلحنها ويغنيها. هكذا نعرفُ الجدوى من الكتابة باللهجة المحكية لتبقى: أغنية؛ لا أقلّ ولا غير.
أمّا الآن، هنا في القاهرة، فأطالع كتباً تندرج تحت مسميات الرواية والقصة والمقالة وحتى السياسة والفلسفة، ناهيك عن الشعر، مكتوبة باللهجة المصرية.. كتابة غريبة.. من نوعية: (ودلوقتي مش عاوز أقولكي ياحببتي)! وليت الأمر انحسر على حدود من يكتب أو يتصوّر أنه يكتب، بل هناك من يقتطف من قصائد لكبار شعراء العصر الحديث ويستشهد بها في حكيه (أو كما يسميها كتابته) – بطريقته الخاطئة نفسها! - ولقد قلتُ لأحدهم وهو يريني كتابه – ولا أجد ضرورة لذكر اسمه – لو رأى نزار قباني نقلك لمقطع من شعره بهذا الشكل لقتلك ومزَّق كتابك!
فقد استشهد ذلك (المؤلف) بمقطع لنزار ونقله هكذا:
(ألا أقول الشعر عاماً كاملاً
وألا أرى عينيكي عاماً كاملاً)
أي والله (عينيكي) هكذا نقلها المؤلف، وحين تسأله لماذا وضعت الياء بدل الكسرة؟ يقول: مش هيا كده صح؟ ولا نزار صح وأنا غلط يعني؟ محنا بنكتب بالعامية عشان الناس تفهم!
سؤال: هل الناس تفهم بالعامية؟
فليكن الجواب (نعم) وردّي على هذا الجواب: فانطق إذاً بالعامية كما يحلو لك، لعل الناس تفهمك، ولكنّ الكتابةَ أصولٌ. والأصل الأصل في الكتابة العربية أن تكون صحيحة لغوياً ونحوياً وقبل كل ذلك إملائياً.
تكلّم وغنِّ وثرثر وحاور وفضفض وغازل وتمرَّد وحرّض وأيّد وحُث وجُس وقل كما تشاء بفمك ويديك وكل أعضاء جسدك، ولكن إذا أردتَ أن تكتب فتعلّم الكتابة الصحيحة أولاً.
أنا متأسف جداً حين أقول هذا الكلام، ولكنني أتصوّر أن كل غيور على الكتابة واللغة، وكل محب لمصر وثقافة مصر، سيؤيد كلامي ويتأسّف مثل أسفي.