القناعات الحدّية وصور التشدد بأشكالها كافة لا تتولّد - أو بمعنى أدق - لا تشيع ولا يتسع نطاقها ولا تتكاثر متنامية وعلى نحو تناسلي في وسط بيئة ثقافية ترحب بالتنوع ولديها الاستعداد الذاتي والتقبل المبدئي لفكرة سماع الصوت الفقهي المختلف، وتعي أن أفهام الرجال ليست وحياً وأن طبيعة الانتماء الفقهي ليس بالضرورة أن يكون معبراً عن التشريع في نفس الأمر وإن كان هو في النهاية يصدر عن أدبياته وكلياته ومعاقده الكبرى، إن بيئة كتلك لا شك أنها ستسفر - وبالضرورة الثقافية - عن ذهنية استيعابية مفعمة بالتسامح، بيئة كهذه لا ريب أنها تمتلك على مستوى المخرجات قدراً من الحصانة ضد الأحادية الحادة التي لا تتخلق أرضيتها الخصبة ولا يكون طريقها نحو الوعي مذللاً إلا حينما ينزل الشرع (المؤول) بمنزلة الشرع (المنزل) والذي له الأولوية في الاعتبار حتى على ذلك الواقع الذي قد يوحي بخلافه كما نعرف في قصة امرأة (هلال بن أمية): «لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن»، وذلك أن امرأة هلال لما رماها زوجها بارتكاب جريرة الزنا وجاءت بوليدها وهو أشد ما يكون شبهاً بـ(شريك بن سحما) أكحل العينين أسبغ الاليتين خدلج الساقين.. غير أنه صلى الله عليه وسلم همش الواقع الذي تنطق أحواله بضرورة إقامة الحد ولم يجعل له الأولوية في هذا الشأن، بل ولى وجهه شطر الكتاب وحسب باعتباره الإطار المرجعي الأساس.
إن الموضوعية الفقهية النائية عن التعصب تقتضي اشتراطاتها تجاوز الطابع المذهبي المغلق ومكافحة الحالة الأحادية {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى}.. والانفتاح على الفضاء الفقهي بكافة تنويعاته والنأي تماماً عن التقولب وفق معطيات فقهية تختصر الحراك الفقهي وتحصره في فرد أو في أحسن الأحوال تحصره في بضعة أفراد بينما تضيق ذرعاً بالمخالف وتجنح دائماً إلى مصادرة حقه في الوجود حتى ولو كان وجوداً على الصعيد النظري فحسب وإن وُجد ذات لحظة انفتاحية فهو وجود صوري باهت يتعذر ملاحظة حيثياته الأساس!
انغلاق الذهنية الفقهية وأحادية رؤيتها وحدة قناعتها وصرامة خطها المرسوم ليس سلوكاً عائقاً عن استكمال متطلبات الشروط المنهجية فحسب، بل هو سيولد أيضاً وبشكل تلقائي بنية عامة ذات منحى نمطي متكلس، سيولد مظاهر أحادية عفوية تسم الحراك الاجتماعي وتؤثر في مساراته وتحدوه للمضي بالاتجاه الذي لا يزيده إلا بعداً حدّياً متخماً بضروب الدوغما، المبالغة في الانكفاء على المنظومة المذهبية سيؤسس بطبيعته لنموذج عام في التفكير والقراءة الانتقائية المبتسرة، سيفرز نسقاً انغلاقياً ما ورائياً غير مرئي يثق بنماذجه بشكل مطلق ويتعامل معها بمنطق تصنيمي وبصورة تحمله على التفكير بطريقة الغائية تنفي المغاير - على طريقة إن لم تكن معي فأنت ضدي - وتقصي المخالف إما بحجب أقواله والتكتم على خياراته أو بتشويهها وإيرادها بطريقة مجتزأة ومنزوعة من سياقاتها أو بتهميش حيثياتها الاستدلالية في كل أبعادها أو ذكرها مقرونة بما يوحي بدونيتها أو - وهذا هو الأخطر - باستبشاعها ومغبة استصحابها وهكذا يتم تناولها وأحياناً بلون من الاستفاضة التي تعزز من فرص مصادرة حقها في التجسيد وفي الممارسة وفي الواقع الفعلي الممتد!
- بريدة