ثمة مركزية متعاظمة يحظى بها الخطاب الفقهي وخصوصا في مثل بيئتنا المحلية الأمر الذي يجعل له دورا حاسما وبالغ الفعالية في تشكيل بنية الوعي الكلي وبالتالي صياغة أشكال السلوك التي تبدو - أو هكذا يفترض - كانعكاس تلقائي مباشر للانفعال بالقول الفقهي والاستجابة لمقتضياته.
قدرة الخطاب الفقهي على التغلغل في الفضاء المجتمعي ومن ثم التأثير في مسارات التوجه العام من ناحية وشدة الارتباط به من قِبل مكونات المجتمع وتفاعلها معه من حيث الصدور عن أدبياته والتشبع بمتبنياته والاقتباس من مقولاته من الناحية الأخرى كل هذا من شأنه أن يُحَمل الفقيه مسؤولية كبيرة تحدوه للتلبس بروح فضفاضة قادرة على الاستيعاب للمختلف بأبعاده المتنوعة من جهة وقادرة على تشكيل مواقف وصياغات فقهية منضبطة باشتراطات المعطى الشرعي ومنسجمة مع حالة السياق الراهن وطبيعة الذهنية المعاصرة من جهة أخرى.
لكل سياق ملابساته ولكل عصر تحدياته ولكل مجتمع سياقاته الظرفية ولكل بيئة أنساقها الثقافية ومألوفاتها المتحكمة, وسوائدها التي قد تستعصي على المساءلة فضلا عن الضبط ولهذا كان قول الإمام (الشافعي) في البيئة العراقية (المذهب القديم) يختلف عنه في البيئة المصرية (المذهب الجديد) نتيجة لتباين العوائد وتغاير الأعراف وتمايز الأحوال هذا فضلا عن التقدم في المرحلة العمرية والذي يعني نضج التجربة واستكمال متطلبات الأهلية؛ إنه ليس ثمة من إمام من الأئمة الأربعة إلا وله روايتان أو قولان في قضايا فقهية متعددة بل في كتاب (السنة) لـ(الخلال) ينقل أكثر من عشر روايات للإمام (أحمد) والمذهب الحنبلي كما هو معروف فيه ما يصطلح عليه بـ»الوجهين والقولين» والكتب في هذا أشهرمن أن تذكر يأتي من أبرزها كتاب (الروايتين والوجهين) للقاضي (أبي يعلى الفراء).
إن سعة أفق الفقيه وتنوع مصادر معرفته وكثافة مخزون التجربة المتراكمة لديه وتعدد ما يعايشه من أوساط بيئية تجعله يتعامل مع الاختلاف على أنه أحد مولدات الائتلاف ولذا فهو يتفهم حيثيات الخلاف ويوسع دائرة التعذير للمخالف ويدرك أنه في يوم ما لربما تبنى هذا القول الذي هو الآن بصدد حشد الأدلة لتقرير مرجوحيته, بينما الفقيه الذي يعيش حالة من الأحادية إما من جهة مصادر الرؤية الفقهية أو من جهة التكور على وسط بيئي محدد وعدم القدرة على مبارحة شروطه وتجاوز فضاءاته فهذا في الغالب يتشكل لديه قدر من الارتباط العاطفي بمقولاته وعلى نحو قد يصاب جراءه بقدر من التوتر وذلك حينما تتناهى إلى سمعه أقوال أخرى يسمعها لأول مرة فهنا قد يمجها وقد يرفضها ويشيح بوجهه عنها ولايستسيغ النطق بها هذا فضلا عما يتولد لديه من مشاعرسلبية قد تتراكم وبشكل يقلل من فرص الانفلات من قبضتها الحديدية!
......يتبع
- بريدة