د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لم نعد بحاجة للمقدمات والتمهيدات والاستشهادات كي نقرر الخواتم والمستخلصات؛ فالنهاياتُ أكثر جلاءً من متعلقاتها المنطقية والمنهجية، والواقع أقسى من عبثية المفردات؛ فلا قيمة لتأصيل أو تفصيل ما دامت الدماء هي اللغة والضيمُ هو الفاصلة.
** حين كنا صغارًا - وليتنا بقينا في همومنا الترفية - ادعينا فهم النصوص الغامضة؛ فلا طاقة لنا بوصمة التخلف الإبداعي عند قراءة منتجات الحداثة وإرهاصاتها المتقدمة مع أننا لم نشكُ العيّ أمام المعلقات والنقائض، وحين كبرنا خرجنا من غياهب الجب فرفضنا التلغيز ولم نعد أسرى الخوفِ من ألاَّ نُعدَّ في ركاب المتفاعلين.
** ما عادت القصيدةُ ذاتَ بال وعاد البكاءُ على الأطلال؛ فالأحداث التي نعيشها أشبه بقصائد عبثية لا تستحق تأويل النقاد والمعبرين؛ فالدموع لا تخفى والدماء لا تُشفى ولا حاجة للمنجمين كي يتنبأُوا بزلازل الزمن العربيِّ البائس.
** قبل سنوات كنا «بعض الأصدقاء» في «مضايا» بضيافة الشاعر الأستاذ خالد الخنين؛ مزهوين بجمالها وخيراتها، سعيدين بالشعر والذكريات، متوجسين من الغد الصعب الذي بدت بوادره منذ أن أصبحت سوريا وكرًا للجلادين والمتآمرين وباتت نذرُ الانفجار توحي بما سيأتي من دمار.
** قُدر لصاحبكم التواصلُ مع نخبة من مثقفيها ومسؤوليها من أهلها والقاطنين بها، وفيهم: عبدالسلام العجيلي ومحمد الماغوط وصباح قباني وأحمد برقاوي ومصطفى طلاس ومظفر النواب وسليمان العيسى وميشيل كيلو وآخرون، ويستعيد أحاديث بعضهم القلقة حين كنا نلتقي؛ فيهمسون بهواجسهم ليقينهم أن الرقباء على مسافة «طاولة»، ولم يسلم منهم مجلس «طلاس» - وهو جزء من النظام - فالاستخبارات مزروعة في صالونه، وكذا تقضي الأنظمة الشمولية البائسة بسجن ذويها وزائريها «حسيًا ومعنويًا»، بل لم تنجُ لجان التعاقد التوظيفية المختصةُ بخدمة ناسهم من التضييق والمراقبة، وبقي جبل قاسيون الشامخ نائيًا عن الاستثمار السياحي لإطلاله على قصر القهر.
** يبدو أننا نعيش اللحظة ونعشى عن الآتي؛ فتخدرنا متاجراتُ الإعلام الرخيص، وكان فينا وما يزال من يظن القاتل مقاومًا والفئوي وطنيًا والطائفي عروبيًا، ونستعيد يوم قامت ثورة الملالي وكمَّ التصفيق والتصديق الذي رافقها، وانتقد من لم ير فيها تقديسًا ولا تدنيسًا من أسموها ثورة مجوسيةً بوجه إسلامي تمثله الآيات والعباءات ثم اكتشف معظمنا عدم براءتها، ويذكر صاحبكم اقتناعه بتحيز صديقه الإيراني (دافيد) -وهو يهودي متنصر - ضد نظام خميني، وعزا ذلك إلى اختلاف الدين وتطلعه نحو المواطَنة الأميركية، ثم علم أنه لم يحدْ.
** اليوم يتنادى الأدنون والأبعدون لإعادة رسم خارطة عربية جديدةٍ تُفتت المفتت وتوقظ الطائفية وتُفنى الإنسان على مذابح الجغرافيا الاستعمارية الصهيو-فارسية وسادتها من الروم والقياصرة وذيولها من الفئويين والحزبيين، ويظل الرجاء في استيعاب معاني الحدود والوجود ومسؤولياتها.
** فهمُ الفهمِ بداية.