د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** لو كان لقراءة الكتب والأوعية العلمية الجادة مقياسٌ من عشرة، وكان النابهُ فينا يحقق من ثماني إلى عشر درجات قبل سيادة العالم الرقمي لتدنت الدرجة إلى مادون الخمس حتى الصفر؛ فقد تركزت معظم القراءات على ما تبثه الوسائط الرقميةُ من أخبار وتحليلات وتعليقات بما يعتورُها من تناقض الطرح وعقلانيته، ونشوز الفكر وموضوعيته، ودقة الأخبار وزيفها، وتنفير القلوب وتأليفها، وفيها ضحالةٌ وعمق ، وجد وهزل، وجمال وقبح،وصار كلٌ يقرا نفسَه ولا يعنيه ما يقوله غيرُه، وبهذه الأنوية الثقافية والمتضادات الرُّؤيوية لا يمكن أن يتأسس تأصيلٌ معرفي أو يتخلقَ جيلٌ ممتلئ، كما لا يمكن أن تقوم الرقميات بديلًا عن الكتب والوِراقيات ذات القيم المضيفة.
** تبدلت اهتماماتنا القرائية فصرنا نلاحق المتغيرات السياسية والاجتماعية لنتعرف على «الملل والنحل» التي نعيناها أيام الطلب موقنين أن دراستها غيرُ ذات جدوى أو على الأقل فرض كفاية ،وانصرفنا عنها لينشغل بها المتخصصون؛ فماالذي سنجنيه من الإيغال في معرفة الجامي والسلفي والجهادي والإسماعيلي والجارودي والبحث داخل الدوائر الغيبية؟ وماذا عن تورط العامة في نقاش القضايا الجدلية بحسمٍ وجرأةٍ وافتئاتٍ على الحقائق والوثائق؟
**يتألم من تصطفُّ الكتبُ في زوايا مسكنه ومكتبه وقلبه دون أن يجد لها وقتًا داخل مساحات الركض العبثي بين فراغات العالم الافتراضي، وحين يحاول الخروج يجد ذهنه مشدودًا للعودة كي لا يفوته تداخلٌ تقتضيه حوارات المجالس وتجاذباتها، ثم يلتفت إلى محصلته فإذا هو « قبضُ ريح».
** سنظل نشقى باختياراتنا وقراراتنا ومرجعياتنا مادام التقليدُ قيدًا ترسف فيه عقولنا الآيلةُ إلى التضاؤل وما بقينا نزاحم في الصفوف الخلفية انتظارًا لما يُضني ولا يُغني، ولله عاقبة الأمور.
(2)
** خسارة الكتب قاسية لكن خسارة الإنسان أمضُّ وأقسى، وبمنأىً عن الأحداثِ المؤلمةِ التي نعيش مآسيَها بمكايد ونيران الصهاينة والفرس والروم والقياصرة وذيولهم فلا نشكو إلا إلى الله تعالى داعينه اللطفَ بعباده المستضعفين والنصرَ لأوليائه الصادقين.
** دوائرَنا الضيقة صارت أضيق بفقد أعزاءَ غيَّبهم الموتُ والمرضُ والشيخوخةُ والوهنُ ؛فافتقدنا الوجوه والأمكنة والأرواح التي تمنحنا الدفءَ والأمان، وكأن الحياة تؤْذن بغياب متعِها غير المرئية؛ فلا يميز لونٌ ولا يطيب طعمٌ ولايُؤنس تطلع.
**نحيا فنودعُ ونستودع، ولا تستطيع السنواتُ ملءَ الفراغ، ثم يتوالى الفقدُ فتتكاثر الجراح، ونتساءل : لم يتوارى الناس الطيبون ويبقى الشريرون؛ فالطغاةُ والظالمون والمسيئون والبذيئون ذوو أعمارٍ طويلة، وكأن ساعاتِهم تتمدد وأيامَهم تتضاعف وحضورَهم يتجاوزُ الزمن المقيس.
** لا شيءَ من هذا يحدث في الواقع غير أن هناك من تغيب بانطفائهم الشمسُ، وفي مقابلهم من يعمُر بوجودهم الغبار ويعمُّ الدمار،وتتجلى نسبية الوقت؛ فيومٌ كألف يوم، وألفٌ كساعة من نهار، ولله في خلقه شؤون،ولخلقه شجونٌ وفنون.
(3)
**العمرُ رحلةٌ وراحلون.