د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في أيام الطين والأزقة الضيقة كان الأطفالُ يخشون المرور عبر الطرقات التي يمدد أقدامَهم فيها بعضُ الكبار خشيةَ تعليقٍ يؤذي أسماعَهم أو تصرفٍ يُحرج براءتهم، ويبحثون عن طرقٍ بديلةٍ بالرغم من محدوديتها مهما طال مدارها أو التفَّ مسارُها، وكان هذا هو الأسلوب المتاحَ أمامهم للنأي بأنفسهم عن أقذاءٍ «عفويةٍ» لم يعرفوها أو لا يُريدون أن يألفوها.
**ومثّلت الجدران والأبوابُ الخشبية والحديديةُ ودورات المياه المدرسيةُ مرآة الرأي» غير المنضبط»، وفيها ما فيها من كتاباتٍ مسيئةٍ ورسومٍ مبتذلة، ولا مجال لتلافيها إلا بإزالتها من مُلاَّك المنازل وإدارات المدارس وبعضِ من قد تمسُّهم بذاءاتُها.
**وكان أكثرُنا - أيام القراءة المبكرة - ينحازون ضدَّ الكتابات المُسفة والمتطرفة؛ فلم يرقْ لنا «سفودُ» الرافعي «وحِدة «مبارك» وعدمية «مظهر» وإن أُعجبنا بهم، وظل الأمر ممتدًا بعدما كبرنا مع الكتّاب المتخصصين في «السِّباب» والمتورِّطين في « التكاذب» ومحترفي «التملّق»، وكان النأيُ عنهم وسيطَ البراءةِ منهم.
**لم تعد بدائلُ الطرقات متاحة، كما لا يجدي المسحُ ولا ينفع التجاهل؛ فالأذى يطرقُ الأبواب والنوافذ ومسامات الجسد، ولم يعد أحدٌ محصنًا عنها؛ ألاذ بمنصبه وأهله ووجاهته أم بنقائه وأخلاقه ودينه أم بحظر أصواتهم وصورهم، وباتت الشكوى لغةَ الوصل والهجرُ لغة الفصل.
** لم يختلف الزمن كثيرًا؛ فمن اعتاد الحديث السلبيَّ عن الناس لن يغيرَه الوسيط؛ فزوايا «المشراق والقائلة والمغراب» تتكرّر في زوايا الصحف والتغريدات وجلسات الاستراحات والمخيمات، ويمس قاماتٍ وقدرات إن لم يضِرْها فإنه يثير الغبار حولها، وقد يخسر المجتمعُ حضورَ مؤْثري الهدوء منهم.
**في منتصف الستينيات الميلادية أصدر وزير المواصلات الأسبق الشيخ عبدالله السعد الحارثي 1330-1414هـ كتابه ( رموز على اللوحة) وأثار ضجيجًا في حينه لتعرضه لشخوصٍ مع أنه لم يشر إلى أسماءٍ محددةٍ، وكأنه - رحمه الله- لم يشأ الإساءةَ إلى معيَّنين وإنما عرض حالاتٍ إداريةً عامةُ لا تتداخل مع السلوك الخاص للأفراد ولا تعترض نواياهم أو اتجاهاتهم، وما يزال الكتابُ يُقرأُ ويفسر مضمونُه وفق أفهامِ قارئيه، ويحسب له أنه لم يُسفّ وعليه أنه دون قيمةٍ معرفيةٍ أو هدفٍ علمي، وفي مقابله آخرُون ذوو ألسنة حادةٍ ومفرداتٍ جارحة، وحين شاخوا واعتزلوا أو عُزلوا لم يعد أحدٌ يذكرُهم أو يشكرُهم، فماتوا قبل أن يموتوا.
** التجاوزُ لم يقف عند البشر فاستطال إلى رب البشر، ومن يستبرئ لدينه يستجيب لأمر الله بأن يُعرض عنهم «حتى يخوضوا في حديث غيره» وإلا كان مثلهم، ومن يرضى لنفسه أن يتماثل مع المُحادِّين المرجفين؟
** القضية هنا تتصل بأساسي «التربة والتربية»، والمتابع للجيل الناشئ يصطدم باللغة الذائعة بينهم، وإذ لم يتلقه معظمُهم في منازلهم فقد استقبلته أذهانهم مع أقرانهم وعبر الفضاء الذي لم يراعِ عمرًا ولا إعمارًا، وويلٌ لمن قدم إلى ربه محملًا بوزرِ الغيبة والبهتان والضَّلال والإضلال.
** الكتابةُ لا تُمحى.