ومع كلِّ ما سطَّره صاحبنا التغلبي من معاني العزة والفخر والأنفة في المشهد الأول، إلا أنَّ الحمية الجاهلية والروح العصبية الثائرة أبتْ إلا أن يستمرَّ في إذكاء دلالات الفخر، ويزيد في مشاهد العزة والأنفة واستعراض القوة، يقول عمرو بن كلثوم في المشهد الثاني من معلقته الشهيرة:
ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا
فنجهلَ فوق جهلِ الجاهلينا
ونَشْرَبُ إنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْواً
ويَشْرَبُ غَيْرُنَا كَدَراً وطِينا
لنَا الدُّنْيَا ومَنْ أمْسَى عَلَيْها
ونَبْطِشُ حَيِنَ نَبْطِشُ قَادِرِينا
بُغَاةٌ ظَاِلَمينَ وَمَا ظُلِمْنَا
وَلكِنَّا سَنَبْدَأُ ظَاِلِمينَا
مَلأنَا البَرَّ حَتَّى ضاقَ عَنَّا
وماءُ البَحْرُ نَمْلَؤُهُ سَفِينا
إذا بَلَغَ الفطامَ لَنَا صبيٌّ
تَخِرُّ لَهُ الجَبابِرُ ساجِدِينا
* * *
هذا هو المشهد الثاني من معلقته التي رأيناه في مشهدها الأول يفخر بقبيلته تغلب، ويكشف عن بعض مفاخرها وصفاتها أوقات الشدَّة وأوقات الرخاء، ويبين منزلتها بين القبائل، وكيف كانت تنظر إليها، وهو في هذا المشهد يستكمل هذا الفخر الثائر، ويكشف عن مزيد من مفاخر هذه القبيلة الشجاعة التي سيصور شاعرها في أبيات نصه المدى الذي بلغته في الشدة والقوة.
يفتتح ابن كلثوم هذا المشهد ببيتٍ شهير، وكل أبيات هذه المعلقة شهيرة، وذلك حين يتحدَّث باسم القبيلة، ويعلنها أمام الملأ لكلِّ مَن تسوِّل له نفسه أن يتعدَّى عليها، أو يفكر في غزوها ومحاربتها، فإنَّ مَن يقوم بذلك الجهل علينا فإنَّ جهلنا عليه وردَّنا عليه لن يكون محمود العواقب، وهي مشاكلةٌ رائعةٌ تصوِّر إباء البدوي، وكرهه للضيم، واعتزازه بقوته وبأسه، وشدَّة دفاعه عن قبيلته ووطنه وحمايتها ممن يفكر في الإساءة إليها أو الإغارة عليها، واللافت في هذا البيت أنَّ الشاعر استخدم مادة الجهل أربعَ مرات، واحدةً في الشطر الأول وثلاثاً في الشطر الثاني، منوعاً في صياغتها بين الفعل والاسم، وهو إبداعٌ وتمكُّنٌ وقوة تصرُّفٍ في اللغة ليست بغريبة على شاعرٍ جاهليٍّ بحجم عمرو بن كلثوم.
ويستمرُّ شاعرنا المتألق في افتخاره بقبيلته، وإظهار قوتها وشدَّة بأسها، كاشفاً في تصويرٍ رمزيٍّ رائعٍ عن مكانة قبيلته بين القبائل جميعها، فقبيلة (تغلب) إن وردتْ الماء وأرادتْ السقيا والشرب منه فإنها لا ترِدُهُ إلا وهو صافٍ نقي، ولا يمكن أن تقبل بأقل من ذلك، أما غيرها من القبائل فإنها ترِدُ هذا الماء وهو مشوبٌ بالكدرة والطين، راضيةً بهذه الحال ومُكرهةً عليه، وفي هذا التعبير الرائع إشارةٌ إلى أنَّ قبيلة الشاعر قد بلغت المرتبة العالية من العزَّة والدرجة الرفيعة من الكرامة، لا يمكن أن ترضى معها بالذل والهوان حتى بالقليل منه، وأنَّ هذه الصفة قد تفرَّدتْ بها هذه القبيلة تحديداً دون غيرها من القبائل التي ربما رضيتْ بالذلِّ والعار والهوان؛ تحقيقاً لبعض مصالحها.
ثم يصل الشاعر الحماسي بقبيلته إلى أقصى درجات الفخر، ومنتهى مراتب العظمة في بقية الأبيات، فيكشف عن سعة مُلك هذه القبيلة وكثرته، مما يزيد في إيضاح قوتها، وسهولة تصرفها في الأمور، فهذه الدنيا لنا وحدنا، في ملكنا وتحت تصرفنا، ليس هذا فقط، بل إننا نملك كلَّ مَن أمسى عليها من البشر وغيرهم، فنحن المتحكمون في كلِّ ذلك، المتصرِّفون في الشؤون جميعها، ولا شكَّ أنَّ القبيلة التي ملكتْ كلَّ ذلك لم يحصل لها هذا إلا بسبب قوةٍ عظيمةٍ وبأسٍ شديد، ولذلك فهو في الشطر الثاني يكشف عن شدَّة بطش هذه القبيلة حين تبطش، وشدة قوتها حين تعاقب وتغزو، ولذلك كان من الطبعي أن تكون مالكةً للدنيا ومَن أمسى عليها.
ولأنَّ الظلم كان من الصفات المحمودة في العصر الجاهلي؛ لدلالته على شدَّة القوة والبطش فلا غرو أن يفتخر شاعرنا به، فقبيلته باغيةٌ ظالمة، وهي التي تبدأ هذا الظلم في كلِّ مرة، دون أن يقع من القبائل الأخرى شيءٌ من ذلك، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن يقع عليها ظلمٌ أو بغيٌ أو عدوان، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ القبائل قد عرفتْ مبلغ قوة هذه القبيلة، فهي لا يمكن أن تتجرَّأ أصلاً عليها، ولذلك يستحيل أن تظلمها، بل عليها أن تدعو ربها ألا يقع عليها ظلمٌ من قبيلة الشاعر القوية، لأنها قد تعوَّدتْ أنَّ تَظلِم وتبدأ الظلم في كلِّ مرة، فلا يُتصوَّر مع ذلك أن يقع عليها ظلمٌ من أحد، وهنا يحضرني قول زهير بن أبي سلمى حين يقول:
ومنْ لا يَذُدْ عَن حَوضِهِ بسِلاحِهِ
يُهدَّم ومَنْ لا يَظلمَ الناسَ يُظلمِ
وقول أبي الطيب المتنبي:
والظلمُ من شيمِ النفوسِ فإنْ تَجِدْ
ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ
وينتقل شاعرنا الجاهلي إلى بيان مظهرٍ آخر من مظاهر قوة قبيلته وشدَّة بأسها، وذلك عن طريق أسلوب المبالغة التي تصل معها الدلالات في نهاية هذا النص إلى أقصى درجات المبالغة، حتى لتكاد تثق أنَّ ما قاله الشاعر لا يُمكن أن يصل إليه أيُّ شاعرٍ آخر في الفخر، ولذلك عُدَّت كثيرٌ من أبيات هذه المعلقة في كتب البلاغة شواهد على المبالغة التي تصل إلى مرحلة الغلو كما سنرى ذلك في البيتين الأخيرين من هذا النص.
ففي البيت قبل الأخير يفتخر الشاعر بالكثرة الكاثرة التي تتميز بها قبيلته، وهي مظهرٌ من مظاهر قوتها وشدة بأسها، ويصوّر لنا عمرو بن كلثوم حجم هذه القبيلة وكثرة أفرادها بشكلٍ رائع، فهو يكشف لنا أنَّ أفرادها كثيرون جداً إلى الدرجة التي ملأوا فيها البر، لكنه لا يكتفي بذلك، بل يوضح أنَّ البر لم يستطع أن يتحمَّل هذه الأعداد الهائلة، لذلك فهو يضيق عنها فتفيض منه، ويستمر شاعرنا المتألق في المبالغة ليصل الحدَّ ويبلغ الغاية، فيزعم أنَّ هذه الأعداد الهائلة قد ملأتْ البحر أيضاً، وما ظنك بقبيلة يضيق البر والبحر بعدد أفرادها، وكيف ستكون القوة والعظمة لقبيلة تملك هذا العدد من الرجال الشجعان؟
ويختتم عمرو بن كلثوم هذا النص العبقري ببيتٍ يكاد يكون أشهر أبياتها، وما ذاك إلا لما فيه من مبالغةٍ شديدة في العظمة والعزة والقوة والفخر قد تجاوزتْ كلَّ مبالغةٍ في هذا المجال، فهو يكشف لنا عن أنَّ الصبي في هذه القبيلة إذا بلغ سنَّ الفطام وهي سنتان فإنَّ الجبابر والأكابر من ملوك القبائل الأخرى وعظمائهم يخرِّون لهذا الصبي ساجدين تعظيماً له وتبجيلا؛ لمعرفتهم أنه ينتمي إلى قبلية (تغلب)، لذلك هم لا يتوانون في فعل ذلك، على الرغم من مكانتهم العظيمة وعزهم الرفيع، لكن ذلك كله يتهاوى أمام هذا الصبي الصغير الذي عظم في أعينهم بسبب انتمائه إلى قبيلة الشاعر، وإذا كان الجبابر يخرون ساجدين لهذا الصبي، فماذا يفعل مَنْ هم دونهم؟! وإذا كان يُفعل هذا للصبي الصغير الذي لم يتجاوز السنتين، فماذا سيُفعل مع زعماء قبيلة (تغلب) وأكابرها ورؤسائها؟! إنها المبالغة في أعلى صورها وأرفع درجاتها، على أننا لا ينبغي أن نغض الطرف عن المخالفة الشرعية الواضحة في هذا البيت، فجنون العظمة أحياناً قد يصل بالشاعر إلى أن يتجاوز الخطوط الحمراء ليقع في المحظور، لكن هؤلاء القوم جاهليون على كلِّ حال، لم يكن الإسلام قد ظهر فيهم، فلا يُستغرب منهم أمثال هذه المعاني والدلالات.
* * *
وبعد.. فهذا هو عمرو بن كلثوم التغلبي، الشاعر الجاهلي الشهير، صاحب أشهر المعلقات في ذلك العصر، وهذه مشاهد مختارة من نصه الاستثنائي الذي رصد فيه مظاهر قوة قبيلته ومفاخرها، فأبدع وأمتع، حتى عدَّها التاريخ من أبرز المعلقات في الأدب العربي.
- الرياض
omar1401@gmail.com