أما طائفة المتشرفين كما نجد عند (هانوتو - رينان)ومن سار على ذات الخط وانتمى إلى هذا الاتجاه فاختط هذا المسار التّمنعي الرافض والذي لايتعاطى مع التراث بطريقة معرفية محايدة بقدر ماهو يجنح إلى تهميشه وإلغاء عامة مكوناته فهؤلاء رأو في هذا التراث - كل التراث وبوصفه نسقا وليس مجرد وقائع جزئية منفصلة أو معطى سياقي محدد! - رأو فيه منتجا تراكميا لازال يمارس فاعليته في التمدد باتجاه السلب وأطرنة الوعي وفق رؤى أحادية لاتنجح إلا في إعادة إنتاج قوالب التأدلج وتكثيف مستوى الغياب عن سياقات العصرنة, رأوا في هذا التراث مصدراً لظلام ثقافي وخطابا مناهضا لكل حراك تجديدي وعقبة كؤوداً أمام كل حركة تحديثية تشتغل على استلهام مبادئ التنوير! وفي المقابل تم طرح سؤال التجديد باعتباره مشروعا ممكنا من داخل التراث ذاته وفي حدود إطاره الواسع والذي يستبطن كثيراً من المفردات المشرقة والإمكانيات الكامنة والتي يمكن استثمارها وتوظيفها في السياق الراهن. ومن الكتب المشهورة هنا كتاب (تجديد التفكير الديني في الإسلام)لمحمد إقبال الذي أكد أن العالم الإسلامي»مزود بتفكير عميق نفاذ وتجارب جديدة ينبغي عليه أن يقدم في شجاعة على إتمام التجديد الذي ينتظره»
إن هذا السؤال سؤال التجديد يفترض أن يظل حاضرا على الدوام ليس لما ينطوي عليه من الوجاهة والمصداقية فحسب ولا من منطلق الإمكانية والمشروعية وإنما من منطلق الحاجة الملحة له والضرورة لاستدعائه ضرورة تزداد وتيرتها كلما اتسعت رقعة التقليد وكلما استحكمت قبضة التخلف، وما دام الواقع يتجدد باستمرار وما دام صانع الخطاب علاقته بهذا الواقع المتجدد هي - أوكما يفترض - علاقة جدلية ذات بُعد تفاعلي فهذا يعني تلقائياً ضرورة التفاعل والانخراط في سياقات نائية عن أثر معطيات البرمجة الجمعية والتي كثيراً ما تهدر طاقة التمنع لدى الفرد ومن ينساق بعفوية نحو الاندماج في الموضوع!
إن كل حديث عن التجديد ليس بالضرورة أن يكون تجديدا لكن ومع ذلك فإن هذا الحديث عن التجديد يعد مرحلة لابد من التلبس بها كخطوة أولية وضرورية في سياق التمرحل لكن ليس من المسوغ أبداً الانحباس في تلك الدائرة والمراوحة في مساحتها القصيرة ولأمدٍ قد يمتد دون أن ينبثق عن ذلك شيء واضح الجدوى , فا لاحتفاء بالتغير وتلمس آفاق التجديد إذا لم يكن له رصيد من الواقع فلا قيمة له سوى الاستهلاك الإعلامي وذر الرماد في العيون ,لابد أن يتمخض عنه امتداد عملي ونتائج تطبيقية ملموسة تؤكد صوابية التوجه ومدى ما يتوافر عليه من جدية.
الرؤى التجديدية تتراجع قيمتها كثيرا - هذا إن لم تنعدم! - إذا كانت فقط حبيسة الذات لا تبرحها ولا حتى على شكل طرح ولوعلى الصعيد الثقافي المجرد؛ إن الأفكار تضمر قيمتها وينحسر توهجها بل وقد يذوب مالديها من قابلية مبدئية للانخراط في فضاءات التغيير وذلك إذا لم تبادر الفعاليات الفكرية إلى تسويقها والجنوح نحو تدعيمها والذود عن حياضها ومدها بالحيثيات التي تؤسس لتجذيرها ومن ثم جمهرتها وإكسابها ما تحتاج من الوهج والإشعاع والزخم المعرفي الممتد.
الأفكار إذا لم تتغلغل في نسيج الواقع فستظل دفينة الذاكرة وحبيسة الإطار الذهني إنها ستبقى مختصرة محدودة بحدود الأنا الذاتية المجردة إذا لم يتم تصديرها وترويج مضامينها وعلى نحو يجسد حقيقة المثقف العضوي والذي لايكف عن الدخول في علاقات جدلية مع الواقع علاقات فاعلة ومنفعلة في آن واحد إذ هي محكومة بثنائية التأثر والتأثير ومن ثم الاشتباك مع التأزمات التي لابد من فضها وتعرية مايعتري هذا الواقع - وبتنويعاته كافة - من تزييف لازال يتوالد باستمرار وبشكل يؤكد مقدرته الفائقة على ترسيخ أقدامه في التربة الثقافية العربية!
- بريدة