د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** في القضايا المفصليةِ تتفاوتُ الأولوياتُ؛ فبينما الوقتُ حكايةٌ أولى في بعضها يتراجعُ إلى مرتبةٍ متوسطةٍ أو متأخرةٍ في سواها، والمعولُ على العائدِ المتوقعِ بعد إتمامها، وهو ما يُحسه الفرد مثلما تعايشه الجماعة والأمة، ومن أمثلة معاينةٍ فإن المعارك الدائرة اليوم في اليمن وسوريا والعراق- بالنسبة لنا - هي معارك وجود يصعب استعجال نواتجها فيما تتحول إلى أولوية قصوى لو كانت معاركَ حدود، ومسافة كبرى تفصل قضايا الوجود عن قضايا الحدود.
** يستبطئُ فئامٌ إنهاءَ الأوضاع القلقة بجوارنا، وربما يئسوا، وقد يستمعون إلى أصواتٍ تزيدُ مخاوفَهم، لكن وعيَ الوضع المحيطِ يُحجِّم المحبطين؛ فلا أطماع فارس ويهود وقيصر والروم ستنتهي، ولا وجودهم سيختفي، والحرب الدائرة لا تؤمن أمتارًا من الأرض، بل تدافع عن الهُويةِ والفرض والعرض، وتسعى لاستعادة بناءٍ «قومي» طالته عوامل التعرية الزمنية والبشرية حتى تداعى أو كاد، والبذلُ من أجلها والصبرُ في سبيلها والإخلاصُ لها يلغي أولويةَ الوقت دون أن يبررَ التباطؤَ أو التسويف، مثلما لا يقبل التراجعَ أو الوقوف في المنتصف.
(2)
** قالها صاحبكم منذ أمدٍ بعيد؛ فلن تعودَ سوريا كما كانت مثلما لن يظلَّ العراقُ هو العراق، وما نشهده احتفال معولمٌ بمرور قرن على اتفاقية «سايكس بيكو» المشؤومة (1916م) يمهد لاتفاقيةٍ أكثر شؤمًا؛ فدخول القوى الكبرى؛ شرقِها وغربِها، في تحالفٍ ممتدٍ يُصالح موسكو مع واشنطن، وفارس مع صهيون، ويأذنُ للمستبيحِ أن يستريح، ويمنع الضحايا من الدفاع عن أنفسهم، ويُتغاضى عن سلب ممتلكاتهم والتصفية الطائفية والتهجير القسري بحقهم، ويُؤذَنُ بتوالد الجماعات المتطرفة «السنية والشيعيةِ» في مناطقهم، وتُحاربُ التنظيماتُ الوطنيةُ الحرة في أوطانها، ويُكافأُ الجزار ويُنتقم من الثوار يوحي أن الآتي نذيرٌ بما هو أسوأ، وأن إرهاب الدول أقسى، وأن الخارطة البديلة مكتملة، والله غالبٌ على أمره.
(3)
** الصورةُ المعتمةُ لا تتيحُ التفاصيل، والتفاصيلُ لا تُغري بالتدقيق، والتدقيقُ لا يوصلُ إلى حقائق، والحقائقُ لا تضمنُ المعرفة، والمعرفة لا تجنذبُ السعادة، والسعادةُ لا تُرى، فلتبقَ العَتمةُ ملاذًا للتيه وتعويذةً للتائهين.
(4)
** في زمن الصِّحافةِ العتيقة كان الحوار يشتدُّ بين الكبار فيتفرج عليهم الصغار، واليوم تصطخبُ المنابر بلجاجِ الصغار فيتداخلُ معهم الكبار، وتتسع الدائرةُ فيتناسل الصغار.
** وفي زمن الوعي العتيق كان الصغار يستجدون حضورَ الكبار، واليوم صار الكبار يلتمسون حضور الصغار.
** وفي زمن الصفاء العتيق يتناقل الشائعةَ «الكاذبة» عددٌ محدود وينفيها رقمٌ ممدود، واليوم يغرد بها الأكثرون وينفيها الأقلون.
** وفي الحياة العتيقة متسعٌ للتدافع والتغاضب والتسامح، واليوم مستنقعٌ للتلاطم والتلاكم والتشاتم، ويبتسم طويلًا من يسيئون كثيرا.
** أراه الفتى ذو الاثني عشر عامًا نجومه «السنابيين» وأبلغه أن هذا يتابعه مئة ألف وذاك مئتا ألف والثالث أكثر، وفضاؤها مرتهنٌ لصغارٍ وصغائر، فأسرج خيالَه وأمات خيولَه.
(5)
** التغافلُ هروب.