د.محمد الشويعر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
استكمالاً لما سبق الحديث عنه في الأسبوع الماضي عن موضوع (العقول)، فبعد أن كثر الجدل العقلي، وفرض بعض الناس مفهومهم العقلي على الآخرين، بل تجاوز إلى المسلّمات الشرعية والتعبدية، واحتجاج بعضهم،
بما برز مع تداخل معارف الأمم، بما سمّوه: المدرسة العقلية ووجوب إخضاع الأمور لما تدركه عقولهم، وما تمليه عليهم الأهواء والرغبات، مع أنّ تعاليم شرع الله لا تخضع لهذه المقاييس، والحق لا يتبع الأهواء كما قال سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } (71) سورة المؤمنون.
فهذه المدرسة العقلانية، لم تبرز رأسها في المجتمع الإسلامي، إلا مع احتكاك المعارف ، بالعلوم اليونانية: الفلسفية والسفسطائية، فخاض فيها من خاض، فقادتهم تلك الفلسفة إلى الدخول لمعترك العقائد، التي صرفت كثيراً منهم، إلى الانحراف بمتاهات متعددة المسارب، ونشأ عنها الفرق والنِّحل المختلفة، التي أوضحها ابن حزم في كتابه: الفصل في الأهواء والملل والنِّحل، والشهرستاني في الملل والنِّحل وغيرهما.
فهلك بذلك من هلك، وعاد إلى رشده من أراد الله هدايته، ومنهم الغزالي - رحمه الله - الذي خاض في هذا المعترك، وبيّن ما مر به في كتابيه: ( تهافت الفلاسفة) ( والمنقذ من الضلال) وقد عبّر عن متاهات العقل التي سار فيها ونتيجة ذلك الطريق بقوله:
نهاية إقدام العقول عقال
وآخر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا بين قيل وقالوا
وكثيراً ما نجد ردوداً لدى علماء الإسلام، حول هذا الموضوع، رغبة في تقييد العقل، بروابط العقيدة الصحيحة، والتمسك بشرع الله، دون جرها لرغبات العقل، وقد توسع ابن تيمية رحمه الله، في هذا الجانب، في كتابه: درك تعارض العقل والنقل الذي يبلغ أحد عشر مجلداً.
ولكن هذه الأسئلة تتجدد عاماً بعد عام، وتفرض على العلماء، بطلب الإفادة عما يجب حيالها، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - سئل في نور على الدرب، ثلاثة أسئلة، أقدم للقارئ طرفاً منها، مع جوابه - رحمه الله - عليها، من باب الفائدة للقارئ:
يقول السائل: هناك كثيرون وللأسف، منهم طلبة العلم، يعرضون النصوص الشرعية، من القرآن والسنّة، على عقولهم، فما وافق عقولهم أخذوا به، وما لم يوافق عقولهم كانوا جريئين برده، ما هي نصيحتكم لمثل هؤلاء؟
فكان جواب سماحة الشيخ - رحمه الله - ما يلي:
نسأل الله أن يهديهم، ونسأل الله أن يردّهم إلى الصواب، فقد أخطأوا وضلّوا السبيل، فنسأل الله أن يردهم إلى الحق، وأن يهديهم إلى الصواب، حتى يسلموا في أنفسهم، ويسلم غيرهم من شرهم.
فقد أخطأوا كثيراً، وضلّوا كثيراّ، والعقول محل الخطأ، ومحل النقص، ومحل النسيان، والعصمة لله سبحانه، ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فيما يبلّغ عن الله، وليست لعقول الناس، فإنّ البشر يخطئون، وينسون.
ولو فكر الإنسان في عقله، لعرف أخطاء هذا العقل، فيما يتعلق بنفسه، وبيته وأولاده وغير ذلك.. لو فكر وأمعن النظر، لكن أكثر الناس، يغتر بعقله، ويظن أنّ عقله جيد، وأنه يصيب وأنه يعرف، ويميّز الصواب من الخطأ، في السنّة وهذا جهل كبير، فإنّ السنّة ليست تأتي بموافقة عقول الناس، تأتي بما تقتضيه حكمة الله جلّ وعلا، وعلمه بأحوال عباده، وحكمته العظيمة في مصالحهم، ودرء الشر عنهم.
فالشرائع تأتي بما تحار فيه العقول، ولكن لا تأتي بما تحيله العقول: العقول الصحيحة، السليمة، تخضع، ولا تحيل ما جاءت به السنّة، ولا ما جاء به الكتاب العزيز، لأنها تحار ولا تعرف الحكمة، لكن ترجع إلى الصواب، لتعرف الحكمة فيما أراده الله جلّ وعلا، لمصلحة عباده، فإن ظهرت لك فالحمد لله. وإلاّ فهو سبحانه: عليم حكيم، وعلى الإنسان أن يخضع عقله، لقول الله ولشرعه، وإن جهل الحكمة.
فالله سبحانه هو العليم الحكيم، وإن أبى الإنسان، وقال: إنه ما ظهر له حكمة الله من هذا الأمر، فالله أحكم منه، وأعلم منه سبحانه، وهو الحكيم العليم قطعاً.
وأنت أيها السائل: إن كنت مسلماً فيجب أن تسلم بهذا الأمر، وتبعد عنك خواطر عقلك، وتؤمن بأنّ الله حكيم عليم، فإذا كنت مؤمناً بذلك، فاخضع لهذا الشيء، وألغ عقلك، إذا ثبت النص، واعلم أنّ الله حكيم عليم، وأنه أعلم منك بمصالح عباده سبحانه وتعالى.
ومما جاء في إجابة سؤال آخر: عن الذين يعتمدون على عقولهم، في فهم كثير من قضايا الدين، هل يعدّون من المخطئين؟
فكان من جواب سماحته على هذا السؤال قوله: يجب ألا يعتمد الإنسان على عقله، بل يجب درس النصوص، والاعتناء بالنصوص، من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنّ فيها الهدى، وفيها التوجيه إلى الخير.
أما العقل: فإنه يخطئ ويصيب، والفرق المخالفة لأهل السنّة، هلكوا بأسباب عقولهم، ظنوا أنّ عقولهم جيدة، وأنها مصيبة، فخالفوا النصوص بأسباب عقولهم الكاسدة، التي ظنوها صحيحة، فمن الذي أوقع الجهمية، في هذه الصفات، والأسماء والجبر إلاّ عقولهم.
ومن الذي أوقع المعتزلة في نفي الصفات، وتخليد العصاة في النار إلاّ عقولهم الفاسدة، وهكذا أتباعهم لأنهم أساءوا الظن بالنصوص وظنوا عقولهم هي المصيبة، فأهلكتهم عقولهم والله المستعان.
هذا والله أسأل أن يرزقنا عقولاً ناصحة مصيبة في نفع وهداية، اللهم آمين.