د.محمد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، نبينا محمد الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
الذكاء وسرعة البديهة، خصلتان مقترنتان ببعضهما، فإذا جاء معهما حلم وأناة، ازداد المرء بذلك مكانة في المجتمع، وقبولاً عند الناس، وسيادة في عشيرته، وعند قومه.
وهذه الخصال لا تكتسب بالتدريب، ولا تشترى بالمال، ولكنها مواهب يَخُصُّ بها الله من يشاء من عباده، وهي جمال يتحلى المرء بها، ومنقبة يُذْكر بها في بيئته، وقد تسوّده في عشيرته وفي مجتمعه، لأنها خصال تتباين مع الجهل، وجواهر يتحلى بها جيْد الإنسان، وتعتز بها الأمة، ويخلد التاريخ أصحابها وسيرهم ونماذج من مواقفهم، إذا لم يستعملها صاحبها في موطنها وقت الحاجة، بفحش أو ممارات، وإلا انقلبَتْ إلى الضد، وبالضد يبرز الضد، أو كما جاء في شطر بيت لأحد الشعراء: (وبضدّها تتميز الأشياء).
وتبرز مكانة الذكاء، وسرعة البديهة، وغيرها من الخصال التي تحقق نتائج كثيرة في المجتمع، وهي لا تتوفر إلا في رجال قلائل في كلّ بيئة، بحيث ترفع من مكانة من يتحلى بها، بل يتمنى صاحب الجاه والمكانة، أنْ تكون معه عند القدرة، ويخسر مالاً كثيراً، ليمسك أحاسيسه، أو تكون عنده القدرة ليرد في الوقت المناسب على بعض المواقف التي تمر عليه، مستهيناً بالخسارة الكثيرة، نظير موقف يرفع الرأس، ويشار إلى صاحبه بالبنان، مع تكرار الذكر الحسن، وما يوصف به حاضراً وغائباً، كما قيل:
وإنما المرء حديث بعده
فكُنْ حديثاً حَسَناً لِمَنْ رَوَى
وهذه من بعض سمات البشر، بحبّ الظهور والبروز في المناسبات، لكنْ ما كل ما يتمنى المرء يدركه.
بل إنّ شيئاً من هذه الخصال، قد تَجْني على صاحبها: حَسداً أو غيره، أو طموحاً في غير موضعه، إذا نقص العامل الإيماني، والقناعة من القلب، فمع هذا لابد من محاربة الهواجس والأعمال عن المكائد والأعمال الرديئة.
وإذا أردنا أن نضرب نماذج من الذكاء، وسرعة البديهة: سلْباً يضرّ بصاحبه، وإيجاباً ترفع من مكانته وتحقق منافع من وراء ذلك:
- فهذا في جانب السلب: أبو العلاء وفلسفته غلبه غلام، عندما حادثه في ادّعاءاته بمثل هذا القول:
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل
فقال الغلام: الأوائل جعلت حروف الهجاء 28 حرفاً.. فزدها واحداً.. فأُفحم أبو العلاء، وتأثر بذلك حتى مات.
والمتنبي لما اعترضه خصومه، لينتقموا منه، أراد الهروب منهم، فقالوا له: كيف تهرب وأنت القائل:
والخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرّمح والقرطاس والقلم
فقال المتنبي للقائل: قتلتني، وكرّ راجعاً على القوم فأحاطوا به وقتلوه.
- أما الجانب الإيجابي، فإنها كثيرة في سير المسلمين، ويهتمون برصدها في تراجمهم، فمثلاً:
هذا عمرو بن العاص رضي الله عنه: الذي فتح الله على يديه مصر، وشارك في فتح مدن الشام، قال المؤرخون بأنه: دارت محاورات ومراسلات مع الروم، فطلب كبيرهم من القائد المسلم أنْ يبعث رجلاً يتفاهم معه، فتنكر عمرو وذهب بنفسه، قائلاًَ: إن القائد عمرو بعثني إليك، فتناقشا ودار حديث أدرك الرومي مكانة ودهاء من يتخاطب معه، فدبر مكيدة لقتله، عندما أوعز للحراس بقتله وإخفاء جثته، وقال لعمرو عندما همّ بالخروج، جائزتك التي تليق بمكانتك، عند الباب، يحملها لك الحراس وكان زعيمهم هذا يطلق عليه، (الأرْطَبُون).
وفي طريق عمرو إلى الخروج، صادفه رجل منهم معجب بعمرو، ورمز إليه بما فهم عن المكيدة وأن هذا الزعيم شك فيمن يخاطب بأنه عمرو، أو من دهاة العرب الذين يدبرون الأمور، فقال لعمرو: لقد أحسنْت الدّخول فأحسن الخروج، ففطن لما يراد به، ورجع إلى ذلك الزعيم شاكراً له ما أمر بصلة، وطالباً منه أن يأتيه بعشرة من أصحابه من ذوي الحِنكة والدّهاء.. ليتفاهم معهم.
فطمع هذا (الأرطبون) في استئصال هؤلاء العشرة، ليضعف بذلك الجيش الغازي لبلاده، فأوعز لحاجبه بعدم تنفيذ ما أمر به، وتخليت سبيله حتى يرجع بأصحابه.. لكن عمرواً لم يعد إليه بعدما نجا من مكيدته، بل هاجمهم، وانتصر عليهم، وفتح الله على يديه.. ولذا جاء في المثل العربي: تغلّب (أرطبون) العرب على (أرطبون الروم)، والأرطبون عندهم تعني الداهية وصاحب الحِيلِ والمكر.
- ومن دهاة العرب وأذكيائهم، إياس بن معاوية (القاضي)، الذي قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: كان يضرب به المثل في الذكاء والدهاء والسؤدد والعقل، وقال الزركلي في الأعلام، أحد أعاجيب الدهر في الفطنة والذكاء، يضرب المثل بذكائه وزكنه، يقال: أزكن من إياس، والزّكَن حُسْنُ الفِراسَة، قيل له ما فيك عيب إلا أنّك معجب بنفسك؟ قال: أيعجبكم ما أقول؟..
قالوا: نعم قال: فأنا أحق أنْ أعجب به، ودخل مدينة واسط، فقال لأهلها، من أول يوم عرفت خياركم من شراركم؟ قالوا: كيف؟ قال: معنا قوم خيار ألفُوا فيكم قوماً، وقوم شرار ألِفُوا قوماً، فعرفت قومكم من هذا العمل: الخيار مع الخيار، والأشرار مع الأشرار.
وكان يتعلّم في صغره عند راهب في صومعته فقال الراهب للأطفال: كيف يقول نبيكم إنّ أهل الجنة، لا يبولون ولا يتغوطون، مع كثرة أكلهم وشربهم، فسكتوا ولم يجيبوا على هذه الشبهة، فاستأذن إياس وهو أصغرهم بالجواب، قائلاً للراهب: كم تأكل في اليوم وكم تشرب؟ فذكر له، فقال: هل كل ذلك يخرج منك؟ قال: لا ولكن بعضه الضار بالجسم، قال: فكذلك أهل الجنة، طعامهم وشرابهم لا ضرر فيه، والزائد يخرج على هيئة عرق وجُشاء، كريح المسك.
فقال الراهب: أخرجوه من مدرستنا، فإنّه شيطان من شياطين العرب.. وكان يمشي يوماً مع نَفرٍ من أصحابه، وفي منعطف الطريق، خرج عليهم فجأة ثلاث نساء فجفلْنَ.. فقال لأصحابه فوراً: واحدة مُرْضع، والأخرى حامل والثالثة بِكْرٌ. فقالوا: كيف عرفت؟ قال: لما رأيننا فجأة فَزِعْنَ، فوضعت كلّ واحدة، يدها على أعز شيء يهمها، فالمرضع يدها على ثديها، والحامل على البطن، والبكر وضعتها على أسفل البطن.
فلما سألوا: جاءهم الخبر كما ذكر لهم إياس.
- والشاعر أبو تمام وهو من أصل رومي، ووالده خباز في ديار الشام، كان مشهوراً بالذكاء، ويعتبر مع جودة شعره ممن جدّد في الشعر العربي، واهتم بدلالات اللغة، فقيل له: مالك تقول ما لا يُفهم؟ فأجاب قائلاً: ما لكم لا تفهمون ما أقول؟ وقد وصفه الكاتبون عنه: بأنه ذكي الطبع، حاضر البديهة، قوي الذاكرة، قيل إنه يحفظ (14) أربعة عشر ألف أرجوزة، غير القصائد والمقطوعات، وكدليل على سُرعة بديهته وذكائه، وسرعة خاطره، أنّه قد مدح الخليفة العباسي المعتصم، في قصيدته السينيّة، ولما وصل إلى هذا البيت:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
قال الكندي الفيلسوف وكان حاضراً، بقصد الإنقاص من قدر أبي تمام: الخليفة فوق من وصفت، وما زدت على أن شبهته بأجلاف العرب، فأطرق أبو تمام، ثم قال على البديهة:
لا تنكروا ضربي له من دونه
مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلاً من المشكاة والنبراس
ولما كانت العادة أنْ تؤْخذ القصيدة من الشاعر، بعد إلقائها، وكانت مطوية في يده اليسرى أثناء الإلقاء، لم يجدوا هذين البيتين فيها.
فعجبوا من ذكائه، وسرعة بديهيته، وهما أجود ما في القصيدة، فقال الفيلسوف الكندي، لأمير المؤمنين المعتصم: مَهْما طلب فأعطه، فإنّ فكره يأكل جسمه، كما يأكل السيف المهند غمده، ولا يعيش كثيراً.
ومما يلاحظ، في سير ذوي الذكاء الحاد، أنّ كثيراً منهم، لا يعمر طويلاً، ويتفرّسون ذلك في الآخرين، كما جاء عن أبي العلاء المعري، وما قال عن ذلك الغلام الذكي، وعن المتنبي وأبي تمام، وما قيل عنهما، وهل صحيح أن الذكاء الحاد، والنباهة القوية، لها دور في ذلك؟ هذا ما نأمل من ذوي الاختصاص: طبياً ونفسياً، الإجابة عليه؛ إذْ الوقائع في السير، تثبت شيئاً من ذلك.
والأذكياء وأصحاب الفراسة، التي قلّما تخطئ، في تاريخنا العربي قديماً وحديثاً كثيرون، في السياسة وإدارة الملك، وفي العلم والأدب، وفي سائر الفنون..
ونأمل من شبابنا أنْ تبرز فيهم هذه الخصال، بعد أن أتيحت لهم الفرص العديدة، في شتى الميادين، وحرص عليهم ولاة الأمر أعزهم الله، حتى ينمّو ذكاءهم الفطري؛ لاستعماله فيما يحقق المكانة المرموقة بين الأمم: علماً واختراعاً وتجديداً مع سعة الأفق والمحافظة والثبات على هويتهم الدينية والأخلاقية، وليس ذلك ببعيد على شباب متحمس هُيئتْ لهم الإمكانات.
ويجب أن يحرص الأذكياء، على التروي واستعمال ذكائهم فيما ينفع حتى لا يقعوا في قول الشاعر:
يقضي على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
وقد ألف ابن الجوزي كتاباً في الأذكياء، كما ألف في ضدهم: الحمقى والمغفلين، ولله الحكمة البالغة!.