د.محمد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، نبينا محمد الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
كل ما خلق الله: صغر أو كبر، عظم في نفوسنا، أو ازدرته العيون من الكائنات، فهم أمم أمثالنا، لا
نعرف الحكمة التي أوجدها الله سبحانه من أجلها، إلاّ من فحوى هذا النصّ الكريم {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } (31) سورة المدثر.
إذ كلّ ما في الوجود من مخلوقات الله، ممّا نحسه أو لا نحسه، سواء كبرُ حَجْمهٌ، أو تضاءل في العين لصغره، وازدرائها له، فإنّ الإنسان مأمور بإجالة فكره؛ لتقوية إيمانه، بإدراك عظمة الله، وحكمته حيث لم يخلق شيئاً عبثاً.
ذلك أن الكائنات الحيّة، سواء في أنفسنا أو في مجتمعاتنا، أمم أمثالنا، وإن خَفِيْت علينا الحكمة التي أوجدها الله من أجلها، فلا يجب أن نستهين بها ولله الحكمة البالغة سبحانه، بل ندرك من بعض الحوادث طرفاً ينبّه أذهان الغافلين على ضآلة الجبابرة المتعاظمة في أنفسهم، بما وصل إلينا علمه {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}(85) سورة الإسراء.
- فهذه قصة الملك (نمروذ) الذي كان في عهد خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، وكان قد ادّعى منازعته لله سبحانه، في ملكوته في ربوبيّته وأولوهيته جلّ وعلا، حيث غلبه الغرور بملكه الواسع، كما قيل: إنه ملك الدنيا كلّها، وطال ملكه فيها، كما قال مجاهد: ملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران، أما المؤمنان فهما سليمان بن داود نبي الله، وذو القرنين الذي جاءت قصته في سورة الكهف، والكافران هما: نمروذ وبختنصر- والله أعلم-.
قال زيد بن أسلم: فبعث الله إلى الملك الجبّار (نمروذ)، ملكاً يأمره بالإيمان بالله، فأبى عليه، ثم دعاه الثّانية، ثم الثالثة فأبى، وقال: اجمع جموعك، واجمع جموعي، وكان الملكُ جاء يدعوه في هيئة بشريّة، فجمع النمروذ جموعه وجيوشه وقت طلوع الشمس، وأرسل الله إليهم باباً من البعوض، بحيث لم يروا الشمس، وسلطها الله عليهم، فأكلت لحومهم ودماءهم، وتركتهم عظاماً بادية، ودخلت واحدة منها في منخري الملك (نمروذ) فمكثت فيهما أربعمائة سنة، وكانت أعمار الأمم السابقة طويلة، عذّبه الله بها في الدنيا، فكان يُضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة حتى أهلكه الله (ينظر تفسير ابن كثير مؤسسة الرسالة ص 203-204).
ذلك أن البعوض جند من جند الله - رغم ضآلته- التي لا يعلمها إلاّ هو سبحانه، وما الجراثيم والفيروسات وغيرها مما لا يرى بالعين المجردة، إلا جند من جند الله، فمنها النافع ومنها الضار، يسلّطها سبحانه على من يشاء؛ لقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَِ} (31) سورة المدثر.
وهذه الجنود وإنْ لم تكن مكلّفة بشرع، شأنها شأن العجماوات، فإنّها عابدة لربّها، وطائعة له، {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }(44) سورة الإسراء.
وهو سبحانه لا يخفى عليه شيء، قد أحاط بكل شيء علماً.
فمن هذه الكائنات الدقيقة، التي يأخذ المسلم منها عظة، وإيماناً بالخالق سبحانه، ومن عجائب ما فيها، قدرة الله المتناهية في كل أمر، منها ما يدرك بالإحساس وله منافع في تلاقح الأشجار وجودة الثّمار، وإزالة بعض الأمراض، ومكافحة الأوبئة، وغير ذلك، حسب ما بدأ يتكشّف للإنسان، ومنها ما لا يدرك، ولكنّه عالم مستقل بذاته.
فمثلاً الطير الأبابيل التي جاء ذكرها في سورة الفيل، قد سلطها الله على (أبرهة) الذي جاء بقوّته العظيمة، وفيله الجبّار؛ لهدم بيت الله الكعبة المشرفة، طغياناً وعلواً، معتمداً على قوّته المادّية وتجاهل قدرة الله وعظمته سبحانه، وأخذ في طريقه إبلاً لجدّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم عبدالمطلب، فجاء إليه يطلب منه الإفراج عن إبله، التي أخذها.
إلاَ أن أبرهة استخفّ به، وقال: لقد هُنْت في عيني، فقد جئت لهدم بيت فيه عزّتك وشرف قومك، ولم تهتم به، وجئْتَ من أجل إبلك؟.. وأمر بإعطائه إبله.
فقال عبدالمطلب: أنا ربّ الإبل، وللبيت ربّ يحميه.
فحرّك أبرهة قواته المتناهية، وفي المقدمة فيله الكبير، وسلّط الله على الجموع الطاّغية، جنداً من جنده، طيوراً صغيرة، جاءت من جهة البحر، ترميهم بحجارة من سجّيل، حيث اختلف بعض مفسري العصر الحاضر، في كُنْه هذه الطيور وما تحمله، وما تأثيرها بالمدرسة العقلية، التي كان يتزعمها محمد عبده شيخ الأزهر، فمنهم من قال: هي الجراثيم التي أحدث فيهم مرض الجدري والحصبا ومنهم من قال: إنّها الجراثيم والفيروسات، التي تُحدثُ الأمراض، وينقلها البعوض والذباب، الذي عنوها بالطير، ومنهم من فسرها بالماديات المحسوسة ووصف هذه الطير بالبعوض والبراغيث إلى آخر ما خاضوا فيه.
وقد توسع سيد قطب -رحمه الله- في مناقشة هذا الأمر، نجتزئ من ذلك قوله في الظلال، ولراغب الزيادة عليه مراجعة الجزء 30 منه.
فهو يقول: فالقرآن يرّد الناس، إلى سنن الله الكونية، باعتبارها القاعدة الثابتة المطرّدة، المنظّمة لمفردات الحركات والظواهر المتناثرة.
ولكن مواجهة ضغط الخرافة من جهة، وضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى، تركت آثارها في تلك المدرسة، من المبالغة في الاحتياط، والميل إلى جعل مألوف السّنن الكونيّة هو القاعدة الكليّة لسنة الله، فشاع في تفسير الأستاذ الشيخ: محمد عبده، كما شاع في تفسير تلميذيه، الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا، والأستاذ الشيخ عبدالقادر المغربي -رحمهم الله جميعاً- شاع في هذا التفسير، الرّغبة الواضحة في ردّ الكثير، من الخوارق إلى مألوف سنة الله، دون الخارق منها، وإلى تأويل بعضها، بحيث يوافق ما يسمونه (المعقول) وإلى الحذر والاحتراس الشّديد، في تقبّل الغيبّيات.
ومع إدراكنا وتقديرنا، للعوامل البيئية الدّافعة، لمثل هذا الاتجّاه، فإننا نلاحظ عنصر المبالغة فيه، وإغفال الجانب الآخر، للتصّور القرآني الكامل، وهي طلاقة مشيئة الله وقدرته، من وراء السنن التي اختارها الله، سواء المألوف فيها للبشر أو غير المألوف، هذه الطّلاقة التي لا تجعل العقل البشري هو الحاكم الأخير، ولا تجعل معقول هذا العقل، هو مردّ كل أمْرٍ، بحيث يتحتم تأويل ما لا يوافقه، كما يتكرر هذا القول في تفسير أعلام هذه المدرسة هذا إلى جانب أنّ المألوف من سنة الله ليس هو كل سنة الله، إنما هو طرف يسير لا يفسّر كلّ ما يقع من هذه السنّن في الكون، كلّ ذلك دليل على عظمة القدرة والقادر سبحانه (الظلال 254 ج 30).
وللحديث صلة...