د. محمد عبدالله العوين
ليست هذه الظروف السياسية والاقتصادية التي تمر بها بلادنا التجربة الأولى التي خاضتها ونجحت في تجاوزها.
إنها سحابة صيف عابرة تمر ثم تنقشع سريعاً - بإذن الله -؛ لتعود حياة الوفرة والرخاء من جديد، مع أن القرارات التي صدرت «للترشيد» لم تقترب أبداً من دخل المواطن بصورة مباشرة، أي أنها لم تمس «الرواتب» على الإطلاق، على الرغم من ضغوط الأوضاع الاقتصادية والإنفاق على المجهود الحربي؛ بل تناولت القرارات بصورة خفيفة جداً ما يمكن أن يكتسب صفتين: الترشيد أولاً، ثم توفير ما يدعم ميزانية الدولة.
ولو استعرضنا تجارب دول أخرى واجهت حروباً طويلة لوجدنا أنها سنّت قانوناً يُقتطع بموجبه مبلغٌ ماليٌ محددٌ من دخل كل موظف تحت بند دعم ما يُعرف بـ «المجهود الحربي» ولكن دولتنا غنية عن أن تحمِّل المواطن شيئاً من ذلك يمس دخله بصورة مباشرة، واتخذت من الإجراءات الاقتصادية ما يكفل استمرار الحياة الاقتصادية للمواطن كما كانت سابقاً مع بعض الإجراءات اليسيرة التي لن تغير الإيقاع المعتاد أو تقلبه رأساً على عقب، مبتعدة عن تصوير القرارات بالتهويل أو المبالغة أو إظهار المخاوف من المستقبل الاقتصادي؛ سعياً إلى بث روح الطمأنينة وإشاعة التفاؤل ودعم المبادرات التي تحرك عجلة الاقتصاد باستمرار المخصصات للمشاريع المعتمَدة كما هي بما يقارب المخصصات في ميزانية العام الماضي.
وستتدفق الأموال المعتمدة لمشاريع البنية التحتية كالقطارات والمترو والمطارات والمدارس والجامعات والإسكان والطرق وغيرها بنسبة كبيرة في السوق الاقتصادي السعودي وتنعشه؛ بالإضافة إلى ما يحققه إنجاز المشاريع من تقدم في مسيرة التنمية الوطنية الشاملة.
ولو تأملنا المرحلة التي تمر بها بلادنا الآن لوجدنا مرحلة مختلفة لم تخترها القيادة السياسية على الإطلاق، فلا يمكن أن يختار قائد لبلاده الضيق بعد الوفرة، ولا الحرب بعد السلام، ولا رفع الدعم أو تكلفة بعض الخدمات في بعض الجوانب بعد التسامح فيها؛ لكن الظروف السياسية والاقتصادية التي نمر بها فرضت ضغوطها دون اختيار؛ ففي الجانب السياسي تواجه المملكة مؤامرة «المشروع الفارسي» الذي يسعى إلى الهيمنة لا على المملكة فحسب؛ بل على المنطقة العربية، متخذاً لتحقيق أهدافه الدنيئة المعادية للعرب وللمسلمين صوراً شتى بتعضيد وتأييد من دول أجنبية أخرى بما سُمي بـ «مؤامرة» التفتيت أو إعادة رسم خريطة المنطقة، ومن وسائل تحقيق مخطط المشروع الفارسي الذي هو جزء من مؤامرة التفتيت إنشاء وتكوين الجماعات المرتدية لبوس الإسلام زوراً كجماعة «داعش» واحتضان ودعم الجماعات الإرهابية الأخرى المنحرفة كجبهة «النصرة» المنسلة من تنظيم «القاعدة» ليبدأ ذلكما التنظيمان تخريباً وقتلاً وفساداً في شمال الجزيرة العربية في العراق والشام، وتصوير الإسلام في أبشع صوره كما تفعل داعش تكريهاً له في النفوس وإثارة للرأي العام العالمي ضد بلادنا بإلصاق تهم التكفير والإرهاب بمنهجنا ونحن منه براء؛ وإنما هم أفراد استغلوا بغباء شديد وركبت المقولات واقتصت من سياقها ثم ألّفت منها آراء ملفقة لا نؤمن بها ولا نعتمدها في تعليمنا ولا في مدارسنا؛ بل نحاربها ونتبرأ منها.
ومن وسائل الحرب علينا ما أنشأته إيران من أحزاب شيعية متطرفة في العراق باسم «الحشد الشعبي» المجرم المكون مما يزيد على أربعين جماعة، وفي لبنان باسم «حزب الله» وفي اليمن باسم «أنصار الله» الحوثي، وكل هؤلاء وكلاء يعملون بالإنابة عن المعممين في قم وطهران.
وقد واجهت قيادتنا - وفقها الله وحماها - هذا المخطط اللئيم بكل شجاعة واقتدار، وكوَّن خادم الحرمين الشريفين «التحالف العربي» الذي تشكّل من اثنتي عشرة دولة لإفشال مخطط الهيمنة على الجزيرة العربية من خلال اليمن، ودكت «عاصفة الحزم» هذا المخطط في عقر داره، وستنجلي مواجهته قريباً بإذن الله عن نصر مؤزر.
وبرؤية الحكيم وبما تملكه بلادنا من مشروعية القيادة الإسلامية كوَّن خادم الحرمين الشريفين «التحالف العسكري الإسلامي» الذي تشكّل من خمس وثلاثين دولة؛ لمواجهة الإرهاب في أي من دول أعضائه على أية صورة إسلامية مزيفة كان، وسيبدأ عمله قريباً - بإذن الله - ليسقط ألاعيب وخطط الفرس ومن وراءهم من أجهزة الاستخبارات العالمية التي كوّنت التنظيمات الإرهابية المدعية كذباً انتسابها إلى الإسلام.
هذا هو الظرف السياسي الصعب الذي تمر به بلادنا، وتحتمل فيه شرف الذود عن حياضها، وشرف الدفاع عن الأمة العربية والإسلامية.
وفي الجانب الاقتصادي انحدر البترول من 120 إلى ما يقرب من 30 دولاراً، وهذا تحدٍ اقتصادي صعب لدولة تدافع عن حدودها الجنوبية منذ تسعة أشهر، وتستنفر طاقاتها العسكرية في حدودها الشمالية الشرقية لمواجهة أي طارئ.
إننا لن ندخل في ميكانيكية انحدار أسعار البترول إلى هذا المستوى وأسبابها وما يكتنف السوق البترولية من أبعاد سياسية؛ فليست هذه المقالة معنية ولا متخصصة في هذا الشأن؛ وإنما يعنينا واقع الحال الذي نعيشه وكيف استطاعت الدولة أن تحافظ على التوازن الذكي بين خطة التنمية وما رصد لها من مخصصات ومتطلبات المواجهة العسكرية لحماية حدودنا الجنوبية وإفشال مخطط الفرس في اليمن، والمحافظة أيضاً قدر الإمكان على المستوى المعيشي للمواطن.
نثق بالله، ثم بحكمة قيادتنا وقدرتها على مواجهة الأزمات - كما كانت أزمة حرب الخليج - وأنها سحابة صيف سريعة ثم تنقشع.