د. محمد عبدالله العوين
سأكتب بصراحة عن نهايات مفكر سياسي تائه بعد ما يقرب من مكابدة قرن من الزمان؛ عن أزمة كاتب سياسي فوق بركان من القلق وفقدان الرؤية، مثقف خاطب صاحب الجلالة الملك فاروق بلغة المراهقة السياسية؛ مؤكدا أن الاستعمار لعبته الملك؛ ولكنه أيضا لا يأنف من استدرار مكاسب تلك المرحلة الملكية بادعاء امتلاك أسرارها والقرب من ياوراتها وبعض رجاله، ممتطيا فورة المشاعر التي اكتسحت الفضاء المصري والعربي حين قفز الضباط الأحرار إلى السلطة، ساعيا إلى التبشير بوعود العسكر الجدد ثم إلى التقرب من الرجل القوي ضمن كوكبة الضباط راسما له منفستو التغيير بفلسفة الثورة دامغا اسم الزعيم على غلافه، ثم راصدا أحداث الناصرية من خلال مقالاته في الأهرام، مؤرخا أيام الوحدة، ومعتذرا عن الزعيم حين حدث ما أسماه بالنكسة 1967م، وداعما له في الوقوف بشجاعة أمام عوامل الانهيار التي اكتنفت التجربة الناصرية، وساعيا إلى أن يكون الزعيم الراحل الذي ارتبط اسمه به منهجا وفكرا وثورة قومية مستمرة لا اسما ومرحلة تنتهي بوفاته من خلال كتابه «لمصر لا لعبد الناصر» وكاشفا في كتاب حواري عن أقنعة الناصرية السبعة، ويائسا من سلام السادات بكتابه «حديث المبادرة» ومتطلعا إلى «آفاق الثمانينات» وراصدا التحول في إيران بعد الشاه بكتابه «مدافع آية الله - قصة إيران والثورة» ثم معتكفا أكثر من عشرين عاما يجتر ذاكرته الصحفية والسياسية بإعادة صياغة الأحداث في فترة نجوميته بكتابه «حرب الثلاثين سنة - سنوات الغليان» و»الزلزال السوفيتي وحرب الثلاثين سنة 1967م الانفجار».
هيكل الصحفي المعمر الذي ناهز الخامسة والتسعين دون أن يفقد ذاكرته السياسية العتيقة، وهنا لب المشكلة ومكمن دائه في التنظير الذي يكتبه أو يتحدث به عن أحداث المنطقة العربية؛ ليس اليوم فحسب؛ بل منذ أن أفل نجمه ووجد نفسه وحيدا يتغنى بأمجاد زائلة وعصر منقرض وزعامة أصبحت في ذمة التاريخ «زيارة جديدة للتاريخ».
مشكلة هيكل أنه يعيش عصرنا بذاكرة عصر ولى، وينظر إلى الأحداث برؤى لم تعد تجدي في تفسيرها والبحث لها عن حلول «العروش والجيوش».
مشكلة هيكل الذي أصبح اسما على مسمى من حيث الخواء الذهني والمقدرة على التناغم مع الواقع السياسي الحاضر أنه يجتر ذاكرته اجترارا وكأنه يخاطب رموز الخمسينات الميلادية وما بعدها إلى مطلع الثمانينات؛ يتكلم اليوم وكأنه يتحدث إلى كيسنجر أو إلى أندريه مالرو، أو كأنه يستمع إلى خروشوف أو إيزنهاور، أو أنتوني إيدن!
مشكلة هيكل أنه منسلخ من الحاضر مستغرق في الماضي، غير قادر على التخلص من متلازمة هيمنة العقود الستة الأولى الفوارة النشطة اللامعة من عمره على العقود الأربعة الأخيرة الخاملة اليائسة المشتتة التائهة المتشظية من عمره!
لا زال موهوما بخيال العروبة الخصيب الذي وبمد القومية الرطيب الذي زرعه في وجدانه الزعيم ووجد فيه هو الطريق الممهد السهل للوصول إلى قصر عابدين وللوقوف مع رائد القومية العربية في صف الدفاع عنها والاستماتة في سبيلها وتقديمها للشعوب العربية على أنها المنقذة لهم من هيمنة الاستعمار والآخذة بهم إلى الوحدة والساعية بهم في دروب المجد والعزة والحرية والتقدم.
تلك كانت مفردات الخطابات النارية التي كان يجيد صياغتها هيكل في ذلك الزمن العربي الصاخب الهائج المائج، معتقدا أن ما بشر به قائد الثورة وعد تاريخي لا بد له أن يتحقق مهما تقادم الوقت أو تعقدت المسائل، وهو لهذا لا زال يعيش وهم الحقبة الناصرية المنقرضة ويقدمها لزعامة مصر الجديدة على أنها هي المنقذ لأمة العرب من حالة التيه التي تتخبط فيها الآن..
ولكن ما لا يمكن فهمه؛ كيف لرجل مغموس في وهج قومي عروبي غارب أن يرتمي في أحضان صفوية الخميني أو يمجد عمالة حسن نصر الله أو يتنبأ ببركات خيرات ستأتي من ثورة كهنوتية ملالية في إيران؟! يتبع