فضل بن سعد البوعينين
كان لافتاً إصرار الحكومة على المضي قُدماً في إنفاقها العام من خلال أرقام موازنة العام 2016، حين حددت المصروفات العامة بـ 840 مليار ريال، برغم انخفاض الدخل المتوقع إلى 513 ملياراً، ما يعني تحمُّل الحكومة عجزاً بحدود 362 مليار ريال. تحول العجز المتوقع إلى عجز حقيقي بنهاية العام 2016 يعني ارتفاع الدين للعام الثالث على التوالي.
اعتماد الإنفاق الحكومي عند مستويات 840 ملياراً جاء متوافقاً مع الوعود التي قطعها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز من أجل تحفيز الاقتصاد واستمرارية النمو ودعم القطاع الخاص الذي ينتظر أن يكون المحرك الرئيس للاقتصاد الوطني
مستقبلاً. تختلف وجهات النظر حيال المضي في سياسة الإنفاق التوسعية برغم تحديات الدخل الكبيرة، وانخفاض أسعار النفط، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية العالمية التي تؤثر سلباً في الطلب على النفط. ففي الوقت الذي يرجح فيه المختصون سياسة الإنفاق المتوازن مع الدخل، ترى الحكومة أن تقليص الإنفاق قد يؤثر سلباً على القطاع الخاص وبالتالي النمو، ما قد يتسبب في مشكلات اقتصادية مزدوجة، ما يجعلها أكثر ميلاً لمواصلة وتيرة الإنفاق السابقة. لكل وجهة نظر تحترم، غير أن تعامل الحكومة مع الاقتصاد الوطني لا يخلو من الاعتبارات الشمولية المؤثرة في نوعية قرارها المتخذ.
أجزم أن توجيه خادم الحرمين الشريفين لـ «مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية بالعمل على إطلاق برنامج إصلاحات اقتصادية ومالية وهيكلية شاملة» وربطها بموازنة العام الحالي التي أعتبرها «بداية برنامج عمل متكامل وشامل لبناء اقتصاد قوي قائم على أسس متينة تتعدد فيه مصادر الدخل، وتنمو من خلاله المدخرات وفرص العمل، وتقوى فيه الشراكة بين القطاعين العام والخاص» هو ما يفسر استمرار الإنفاق الحكومي عند مستوياته العليا برغم تحديات الدخل.
لا يمكن للإصلاحات الاقتصادية أن تحقق أهدافها ما لم يدعم القطاع الخاص، ويحفز على تحمُّل مسؤولياته، وهو أمر لا يمكن تحقيقه دون استمرارية الإنفاق وبما يساعد على دعم الشراكة بين القطاعين الخاص والعام.
عدم المساس بمشروعات التنمية أمر جيد ولا شك، إلا أن تحقيق كفاءة الإنفاق أكثر أهمية، فمع انخفاض الدخل يستوجب على الحكومة التركيز بشكل أكبر على وقف الهدر المالي وتحقيق الجودة والكفاءة في مشروعاتها وإنفاقها العام، ومكافحة الفساد وتفعيل دور الجهات الرقابية.
وزير الدولة، محمد آل الشيخ، أكد أن «المملكة نجحت في الحد من الإنفاق غير المبرر في النصف الأخير من 2015، إلى جانب إعدادها ميزانية رفع كفاءة الإنفاق للعام المقبل 2016». لا تخلو آلية إنفاق وزارات الدولة لاعتماداتها المالية من الهدر في الربع الأخير من العام، حيث تحول الاعتمادات المالية الفائضة إلى مشروعات إغراقية غير مبررة، يمكن الاستغناء عنها، بهدف استغلال كامل الاعتمادات المالية من جهة، وضمان تعظيم موازنة الوزارة في العام القادم، من جهة أخرى.
دراسة مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية لطبيعة الإنفاق خلال العام أسهم في اكتشاف الخلل، ومعالجته بما يساعد على وقف الهدر والصرف غير المبرر.
برغم وجود الاحتياطيات المالية، وتوفر السيولة في الاقتصاد، إلا أن تمويل العجز المتوقع في موازنة العام 2016 في حاجة إلى مراجعة البدائل لاختيار الأفضل بينها، وبما لا يتسبب في مشكلات تمويلية للقطاع الخاص، الذي قد يواجه بصعوبة بالغة في توفير التمويل المناسب من القطاع المصرفي الذي سيركز كثيراً على السندات الحكومية منخفضة المخاطر.
سحب ما يقرب من 362 ملياراً من سيولة القطاع المصرفي ستتسبب في شح التمويل، وارتفاع تكلفته، ما قد يؤثر سلباً على القطاع الخاص، وبالتالي على برامج التحول الاقتصادي التي تعتمد القطاع الخاص كمحرك مستقبلي للنمو، ومن هنا فلا بد للحكومة أن تراجع بدائل التمويل المتاحة، وأن تسعى إلى الدمج المتوازن بينها وبما يوفر لها السيولة المطلوبة دون أن يؤثر ذلك سلباً على قدرة المصارف الائتمانية. الاستفادة من عوائد الاحتياطيات الخارجية، وطرح سندات في الأسواق المالية العالمية من الحلول الجيدة في الوقت الحالي. طرح سندات دولية سيسهم في ضخ أموال جديدة للاقتصاد، هو في أمسّ الحاجة لها، ويسهم في توفير السيولة المحلية لدعم تمويل القطاع الخاص الذي بات يشتكي شح التمويل وارتفاع تكلفته.
الوزير محمد آل الشيخ، تحدث عن «دراسة لوزارة المالية، من أجل فتح برنامج للاقتراض من الخارج»، وأكد على أن «الحكومة ستعتمد أفضل خيار بالنسبة لها في تمويل العجز، عبر الاقتراض من الداخل والخارج أو السحب من الاحتياطيات». إنشاء إدارة للدين العام تتولى مسؤولية التخطيط الأمثل للديون السيادية، وطرح البدائل والخيارات، من الأمور الاحترافية المستحدثة من قِبل مجلس الشؤون الاقتصادية، إضافة إلى بند دعم الموازنة المحدد بـ 183 ملياراً، وهو من البنود المستحدثة في بناء الموازنة.
الوزير آل الشيخ أشار أيضاً إلى «رفع قيمة الإيرادات غير النفطية» والتركيز بشكل أكبر على تحصيل الإيرادات الحكومية، ويبدو أن تفعيل آلية التحصيل أسهمت في رفع نسبة الدخل غير الحكومي إلى 27 % وهي سابقة تحسب للحكومة ولا شك.. والأهم من ذلك استحداث إدارة جديدة في وزارة المالية، هدفها «خلق مركز مالي موحد للصناديق والمؤسسات التابعة للدولة من أجل قياس أدائها ومعرفة صورة أوضح عن مركزها المالي». الرقابة المالية، والتحقق من كفاءة الاستثمار، من أهم أدوات تعظيم الدخل والمحافظة على المال العام مستقبلاً.
أجزم أن تحديات الدخل الحالية حفّزت الحكومة على مراجعة خططها الإستراتيجية ذات العلاقة بضبط الإنفاق وتحقيق كفاءته، وتنويع مصادر الدخل، وبناء قطاعات الإنتاج، إضافة إلى دعم القطاع الخاص، وتفعيل دوره في التنمية ومساعدته على تحمُّل مسؤولياته الرئيسة، والانعتاق التدريجي من إيرادات النفط. التعامل مع تحديات الدخل الحالية ليس مستحيلاً، وأسأل الله أن يُبارك في الجهود الرامية لتنفيذ برامج التحول الاقتصادي التي يُعوِّل عليها الوطن والمواطنون الكثير.