فضل بن سعد البوعينين
ترتبط جريمتا التستُّر وغسل الأموال بروابط وثيقة، وتداخلات معقّدة تحد من إمكانية الفصل بينهما.. فالعوائد المتأتية من جرائم التستر وتعاقداتها المالية ما هي إلا ركن أصيل من أركان جريمة غسل الأموال المحرّمة شرعاً وقانوناً.. وبالرغم من وجود قضايا متنوعة لجرائم غسل الأموال، إلا أن الإعلان عنها لم يصل بعد حد الشفافية المطلوبة، بل أزعم أن التسريبات المرتبطة بها، تأتي غالباً من اجتهادات صحفية، لا بيانات رسمية.. إحصائيات قضايا غسل الأموال، وأحكام الإدانة، وحجم الأموال المغسولة، والقطاعات المرتبطة بها ما زالت من الأسرار المغيّبة عن الإعلام، لأسباب غير معروفة.
أزعم أن جرائم التستر المنتشرة في القطاع التجاري هي أحد أهم قنوات تغذية جرائم غسل الأموال محلياً.. أكثر من 300 مليار ريال عوائد متوقعة لمنشآت تعمل تحت مظلة التستر، تبحث عن قنوات رسمية لإضفاء الشرعية عليها.. حاجة المتستر عليهم لدمج أموالهم القذرة في الاقتصاد، حفزت عصابات غسل الأموال على تنظيم نفسها وفتح قنوات جديدة، وتجنيد عملاء من كافة شرائح المجتمع لضمان غسل الحجم الأكبر من الأموال القذرة، وضمان السرية التامة لعملياتها، وتجاوز الأنظمة والقوانين والعقبات الطارئة من خلال استغلال النفوذ، أو السمعة التجارية، أو الوظيفة الرسمية. تُعتبر قضية «المليار ريال» التي وجدت في حساب مقيم مُتَسَتَّر عليه من قِبل أحد رجال الأعمال، ويرتبط بعلاقات قوية مع بعض المسؤولين الذين يعتقد أنهم سهلوا له تعاقداته التجارية، أو ربما وفروا له الغطاء والحماية، لإبعاده عن دائرة الاتهام، إحدى قضايا التستر وغسل الأموال المُسربة للإعلام حديثاً.
أعتقد أن جريمة التستر التي نشرت بعض تفاصيلها جريدة «الحياة» والمرتبطة برجل أعمال سعودي متهم بتستره على «مقيم لبناني» يدير أنشطة تجارية من خلال شركته التي بلغ رأسمالها نصف بليون ريال، ما هي إلا رأس جبل الجليد الذي تسيطر قاعدته على جزء رئيس من قطاعاتنا التجارية والصناعية. يعتقد البعض أن قضايا التستر باتت مرتبطة بشكل رئيس بالقطاعات التجارية.. والحقيقة أن القطاع الصناعي لا يخلو من عمليات تستر منظمة توشك أن تطبق عليه وتحرم السعوديين من فرص الاستثمارات الصناعية، وبخاصة ملاك المنشآت الصغيرة والمتوسطة. تجد مافيا التستر الدعم اللوجستي والتعاون من مسؤولين في بعض الشركات الكبرى الذين يسهلون لهم الحصول على عقود صناعية بمئات الملايين سنوياً. تقاطع المصالح واستغلال المناصب يزيد من عمق منظومة التستر الرائجة في القطاعين التجاري والصناعي. ومن غرائب سوق التستر المحلية، سيطرة جنسية معينة على كل قطاع من القطاعات الصناعية والتجارية، وكأنهم يتقاسمون خيرات البلاد بينهم، وفق تنظيم متقن وغير معلن؛ لا يسمح بالتداخل والمنافسة.
لم يكن كشف قضية التستر وحساب المليار ريال مستغرباً البتة، لضخامة الجريمة وتمددها في قطاعات تجارية ومالية لا يحتاج الكشف عنها إلى مجهر الجراح؛ بقدر حاجته إلى عين الرقابة النزيهة. المستغرب حقاً، هو قدرة الشركة والأطرف المنخرطة فيها على ممارسة نشاطها القذر لسنوات؛ وإدارة حسابها المصرفي المتخم بمئات الملايين، وإجراء قيود وحوالات مصرفية لدول تُصنف ضمن قائمة الدول الأخطر في جرائم غسل الأموال، دون أن تثار حولها الشبهات.
ارتباط قضايا «الفساد» بمناصب إدارية قيادية، واستغلال النفوذ، وتقاطع المصالح يتسبب في إخفاء بعض الجرائم الكبرى التي تكون ظاهرة للعيان. قضايا التستر وغسل الأموال من أخطر الجرائم المدمرة للاقتصاد، وبرغم جهود مكافحتها، ما زالت تنتشر انتشار النار في الهشيم. يبدو أن الجهود الحالية أقل من أن تنجح في السيطرة عليها، أو أن تسهم في الحد من تمددها. قضايا غسل الأموال الأحادية المرتبطة بالتدفقات المالية القادمة من الخارج، والقضايا المحلية المركبة المرتبطة بجرائم أخرى كالتستر، المخدرات، الرشى، وقضايا فساد متنوعة، في حاجة ماسة إلى تخصص أكبر، ومنظومة رقابية مشددة، واستقلالية تسهم في مكافحتها، وتقديم المنخرطين فيها للقضاء حماية للاقتصاد والأمن الوطني.