د.ثريا العريض
أحتاج وقتا لدراسة الميزانية الجديدة في أول تطبيق لبرنامج التحول الوطني. وكانت أول تجربة لي مع الميزانية، حين عهد إلي بتقدير الميزانية المتوقعة للدولة في زمن الإدارة الأمريكية لأرامكو. وخرجت بتكهن لم يختلف عن الواقع الذي أعلن بعد شهرين إلا بربع مليون ريال. أحبط فرحتي بـ»شطارتي» وقتها إصرار رئيسي أن هناك من ساعدني بتسريب معلومات داخلية. الحقيقة أن التكهن كان سهلا لسهولة استكناه كيف توزع الميزانية على البنود حسب توزيع تقليدي معتاد وتقدير لدخل معروف أيضاً. الأمر يختلف الآن في وضع جديد. وسأتمعن في الميزانية المعلنة بإطار رؤية جديدة, لاحقا وبعمق مطلوب.
تجربتي مع الوطن بدأت بعد التخرج بالاستقرار أسريا في قلب التقنية بمدينة الظهران, بين جامعة الملك فهد للبترول والمعادن, وأرامكو التي انضممت للعمل فيها في التخطيط العام, ثم إدارة العلاقات الحكومية. اخترت أن أعمل في القطاع الخاص بدل العمل الأكاديمي الإداري في جامعة بالدمام. بدءا قابلني الرئيس الأعلى ليتعرف علي وسأل لماذا تريدين العمل هنا؟ كل موظفينا نختارهم بتجربة طويلة في شركات النفط. قلت إن كان هذا معيار الشركة للتوظيف فلن تجدوا شاباً سعودياً واحداً بالمعايير التي تضعونها. كل المواطنين المؤهلين شباب بلا تجربة. شخصيا لا أريد أي معاملة تمييزية, لا لجنسي ولا لجنسيتي. أريد أن أعامل كمتخصصة وأحضر كل الاجتماعات والمؤتمرات. ناقشت معه لاحقا فكر التخطيط السائد: لماذا نخطط ونقدر ما سيجنى من تصدير النفط مفترضين أن الطلب سيظل دائما متزايدا؟ الواقع أنها سوق عرض وطلب لا تثبت فرضيات مستقبلها. تحولت الإدارة إلى تبني فكر التخطيط الإستراتيجي وتقديم سيناريوهات عدة محتملة افتراضيا؛ يعلو الطلب, أو ينخفض, أو يظل كما هو. ويجب أن يكون لدينا خطة تنفيذية وتقدير للدخل لكل احتمال. واقتنع، فتحول أسلوب تخطيطنا من توقع المعتاد إلى التأهب المسبق.
حين عيّنت كأول سعودية في إدارة التخطيط العام بالشركة استغربت أن لم أجد خطط التنمية الخمسية متوافرة ضمن مراجعنا؛ أصررت على رئيسي المباشر: يجب أن نعمل ضمن توجه الدولة فيما يتعلق بخطة صناعة النفط، وطلبت من وزارة التخطيط تزويد دائرتنا بالخطة الخمسية باللغتين, ووجدت أنها فعلاً تزود الشركة بخمسين نسخة، تنتهي كزينة بمكاتب بعض المسؤولين.
الفترة الأولى حتى منتصف الثمانينات على قصرها ورغم انزعاج رؤسائي من أفكاري المتمردة على معطيات الإدارة الأجنبية, زرعت فيّ الكثير من التفاؤل, والإصرار أنني مواطنة كاملة الأهلية وخدمة مصلحة الوطن قبل أي معيار آخر. وطبعاً خسرت مادياً. بعدها بسنوات قليلة تحوّلت أرامكو إلى «أرامكو السعودية» شركة الطاقة العملاقة الممتلكة بالكامل للدولة. وعايشت مرحلة السعودة والانتقال الجذري من صناعة قرار ربحية لشركة أمريكية, إلى إدارة سعودية ملتزمة بالمسؤولية الاجتماعية وموقنة بمصيرية التوطين والتدريب للجنسين, ومعارضة الرافضين لحضور المرأة كشريك كامل المسؤولية.. ومثل أي مؤسسة بشرية معرّضة للتفضيلات الفردية على أرض الواقع.
ورغم تصاعد ضغوط المحيط ظلت أرامكو السعودية، وجامعة الملك فهد للبترول المعادن بيئة تقدمية متميزة بريادتها وقيمها وعلو مستويات منجزاتها, رغم كل تشكيك من أي فرد أو جهة يبرر فشله عند المقارنة, ومحاولات الإخضاع للقولبة ضمن الإطار العام من خارجهما. كلاهما دليل أن المؤسسة الوطنية إذا امتلكت قدرة التفرد والمبادرة تأتي بما يرضي وينفع بتفوق واضح. ويبقى إطار الفكر العام الضاغط على أي فرد أو مؤسسة ليلتزم بقالب واحد إذا فرض على الجميع يقتل المبادرة والتفرد وإضافة الجديد المتميز. والانتماء الوفي المنتج لا يأتي بالقولبة ولا بإقصاء أي فئة.
ثم خلال العقود الأخيرة التي تسارعت فيها وتيرة الضغط للالتفاف إلى الوراء, تصاعد حس محذر أننا نفقد زمام المبادرة لاستباق أو حتى علاج المستجدات السلبية, وأن الإطار السائد استشرى بضغوطه, فغدا يملي على المجتمع ما يرسخ بقاءه عاجزاً عن التحول المنتج. ولهذا ونحن ظاهرياً مستمرون في محاولة بناء الدولة المتحضرة بمؤسساتها الحديثة, تنامت ممارسات الفساد والاستغلال وإعلاء الأهداف الخاصة وتهميش مصلحة الوطن كمعيار للقرار المستفيد.
عايشت زمن التدهور ثقافياً.. تدهور يتسارع نحو فرض الشلل التنموي.
وأرقني مهنياً وتنموياً استمرار الاعتماد على الاستقدام لإدارة المشروعات وتنفيذها, وعلى النفط كمصدر دخل أساسي شبه وحيد يسعدنا حين تعلو أسعاره, ونظل مهددين باحتمالية هبوطها لسبب داخلي أو خارجي.
الآن ونحن نتعامل بفرضية التأهب وتقليص احتمالات الخسائر المكلفة, وبمنطلق المتابعة والتنفيذ بالشهور المعدودة.. أرى الميزانية والتخطيط من زاوية مختلفة التركيز. وأقول: لنر ما يتحقق قبل الحكم مسبقاً بمتوقعات تقليدية مستلة من الماضي.
ونعم لتحقيق التحول الحيوي إلى زمن فرض فكر الفعل المنتج القابل للقياس بمؤشرات ملموسة خلال شهور لا عقود من فكر الاتكالية.