م. خالد إبراهيم الحجي
البيروقراطية في الأصلِ مصطلحٌ يعني النظام الإداري الذي يسيطر على أي مؤسسة أو هيئة كبيرة ويعتمد هذا النظام على الإجراءات والقوانين الموحدة وتوزيع المسؤوليات بطريقة هرمية تبدأ من القمة إلى القاعدة، ومع مرور الوقت تغير مدلول البيروقراطية إلى أن أصبح يرتبط بجملة من قواعد السلوك وأنماط معينة من التدابير الإدارية، التي تتصف في الغالب بالتمسك الشكلي بظواهر التشريعات والتقيد الحرْفِي بالقانون فتولد عن ذلك الروتين الممل، والإجراءات المعقَّدة التي ليس لها فائدة سوى تعقيد المعاملات وتأخيرها، والبيروقراطية المفرطة جداً يترتب عليها في كثير من الأحيان آثارٌ مذلة للكرامة الإنسانية، كما تثير التذمر والشكوى وأصبحت قضية تؤرق معظم الناس وتقلقهم، وغالبية الناس يستنكرونها ويشجبونها في المجالس والاجتماعات والمنتديات، وهناك رأيان متباينان بشأن البيروقراطية:
الرأي الأول: مناوئ للبيروقراطية ويتمنى تعديل الهياكل الهرمية للتنظيمات الإدارية إلى هياكل مرنة تسمح بسير العمل بسلاسة، ويؤكد أصحاب هذا الرأي على أن تغلغل البيروقراطية بعمق في المؤسسات الإدارية والهيئات الحكومية يعرقل مصالح شرائح المجتمع المختلفة من الصغار والكبار والرجال والنساء والمواطنين والمقيمين، ويخلق هذا التغلغل مناخاً خصباً للمحسوبيات والفساد المالي، ويجمع أنصار الرأي على أن تقليص واختزال البيروقراطية وتهميشها يُعتبر مفهوماً رئيساً في نظرية الإدارة الحديثة.
الرأي الثاني: يؤكد على ضرورة البيروقراطية وأهميتها للمؤسسات الإدارية والهيئات الحكومية ويثني على التمكين الإداري ويمدحه ويمجده، ويحتج بأن العمل من خلال التسلسلات الإدارية الهرمية هي الطريقة الأكثر صرامة وفعالية للحفاظ على النظام الإداري، وتنظيم النشاط البشري، وتطبيق الإجراءات المستديمة لتحقيق أقصى قدرٍ من السيطرة الرقابية على سير العمل داخل المؤسسات الإدارية والهيئات الحكومية. وهذا الرأي الثاني الذي يؤكد على ضرورة البيروقراطية وأهميتها للمؤسسات الإدارية والهيئات الحكومية الكبيرة التي تتطلب كثيراً من التدقيق التنظيمي المكثف، يحتج أنصاره بأن غياب السياسة الإدارية وغياب الرقابة يترتب عليه عواقب وخيمة أهمها فقدان القيادة والسيطرة اللازمة لسرعة صناعة القرارات الإستراتجية، لأن هؤلاء الأنصار يرون أن الهياكل الإدارية البيروقراطية تُعتبر مثالية عند الحاجة السريعة لاتخاذ القرارات الإستراتيجية التي تصبح كثيرة جداً عندما تتمدد المؤسسات الإدارية والهيئات الحكومية وتصبح كبيرة جداً، إلا أن أصحاب الرأي المناوئ للبيروقراطية يردون على هذه الحجة بأن البيروقراطيات عندما تكبر وتصبح كبيرةً جداً تفقد المؤسسات الإدارية والهيئات الحكومية فعاليتها في سرعة الأداء وكفاءتها العالية في الإنتاج، وبالتالي يظهر عليها الاختلال الإداري، فتصبح البيروقراطيات سبباً في الشكوى والتذمر من تعقيدات الأنظمة الإدارية ومن بطء سير العمل في المؤسسات الإدارية والهيئات الحكومية، ومن أبرز عيوب البيروقراطية الناشئة عن التنظيمات الإدارية ذات التسلسل الهرمي التي يعبر عنها (بالقيادة والسيطرة) العيبان التاليان الأول: إذا كانت التنظيمات الإدارية الهرمية قد نجحت في الماضي بما ولّدته من بيروقراطية، إلا أنها غير قادرة على الاستمرار ومواكبة وتيرة التغير السريعة والتطور والتقدم في عصرنا الحاضر لأن التغيرات المعاصرة تحدث على هيئة طفرات حضارية ومدنية سريعة جداً خلال فترات زمنية قصيرة. الثاني: إن التنظيمات الإدارية الهرمية تعطي أهميةً كبيرةً للأقدمية الوظيفية وبالتالي تقضي على الابتكار وتؤصّل الطرق التقليدية في العمل التي تعتمد على صب الأوامر والتعليمات من أعلى الهرم إلى قاعدته متجاهلة الأفكار الجديدة الخلاّقة.
وأصحاب الرأي المناوئ للبيروقراطية يجمعون على أن الاستعانة بمجموعةٍ من المفاهيم العلمية الحديثة التي تستند على مبادئ الإدارة الصحيحة الخالية من البيروقراطية وتعقيداتها سيحقق الفوائد التالية: (1) التنظيم الإداري المرن الذي يبعد عن الصرامة والتصلب والجمود. (2) الانضباط الذاتي للموظفين والإخلاص والتفاني في العمل دون سلب حرياتهم. (3) تشجيع الموظفين على إبداء الآراء والسماح لهم بالمشاركة في وضع الإستراتيجيات الخاصة بسير العمل. (4) تحقيق أقصى قدر من كفاءة العمل وسرعة الإنجاز مع إفساح المجال للابتكار والإبداع.
إن الواقع الإداري الذي نعيشه يجب أن نواجهه بشجاعة، قبل بذل الجهود الجريئة لعلاج البيروقراطية في المؤسسات الإدارية والهيئات الحكومية، ونعترف بوجود انحياز إداري شديد للبيروقراطية داخل المؤسسات الإدارية والهيئات الحكومية، كما يجب الاعتراف بأن أي هيكلة إدارية نقوم بها لن تحقق أي تغيير ملموس في النظام الإداري ما لم تأخذ في الحسبان القضاء على الصرامة والصلابة والجمود، لذلك يُوصي خبراء التنظيم والإدارة الحديثة بتصميم المسارات الإدارية المرنة التي تسمح بتنفيذ الإجراءات بسرعة وتحرص على سير العمل بسلاسة من خلال توزيع السلطات على الإدارات الفرعية ومنح الصلاحيات للمديرين التنفيذيين لتهميش التسلسل الهرمي والتخلص من تعقيداته، ويمكن تطوير الشكل الهرمي للتنظيمات الإدارية من خلال استحداث الإدارة اللا مركزية بشقيها، الأول توزيع الصلاحيات: ويتمثّل في توزيع بعض السلطات والصلاحيات المحدودة من الإدارات العليا إلى الإدارات الفرعية البعيدة عنها جغرافياً، لاتخاذ القرارات المناسبة التي تتطلبها حاجة العمل للقيام بالمهام المحددة التي تعهد بها الإدارات العليا إلى الإدارات الفرعية التابعة لها. والشق الثاني من الإدارة اللا مركزية: التفويض: ويتمثّل في تفويض بعض الصلاحيات الواسعة من الإدارات العليا إلى المديرين التنفيذيين، والرأي الذي يقول إن نظام الإدارة اللا مركزية المتمثّل في توزيع السلطات ومنح الصلاحيات يُعتبر عنصراً أساسياً لعملية التطوير والتقدم الذي يقضي على مشاكل البيروقراطيات المختلفة، تؤيده المساعي والجهود الجارية للتحول إلى الحكومات الإلكترونية، فبواسطة الشبكات السلكية واللا سلكية يمكن للإدارات الفرعية أن تصبح أكثر اتصالاً ببعضها البعض وأكثر ارتباطاً بالإدارات الرئيسة، وكذلك بواسطة البرمجيات المتطورة يصبح من السهل مراقبة تنفيذ الأعمال ومتابعتها، وضبط الأخطاء والمخالفات في وقت مبكر قبل استفحالها، وإمكانية المراقبة والإشراف من الجهتين في آنٍ واحد، مراقبة ذاتية من قِبل الإدارات الفرعية الجهات المنفذة، ومراقبة موازية من قِبل الإدارات العليا الجهات المشرفة. وعموماً يمكن القول بأنه لا توجد هناك إدارات مركزية مطلقة أو إدارات لا مركزية مطلقة، بل إن الواقع الإداري الحديث يمزج بينهما بنسب متفاوتة، والسبب أن التفويض يُعتبر أمراً نسبياً ويختلف من مؤسسة إدارية أو هيئة حكومية إلى أخرى، والتفويض يرتبطعادة بأهمية السلطات ونوعية الصلاحيات الممنوحة للإدارات الفرعية والمديرين التنفيذيين، أي أن الإدارات العليا لا تمنح جميع صلاحياتها بشكل مطلق للإدارات الفرعية التابعة لها كي لا تتحول إلى سلطات عليا مناظرة لها، ولأن المسؤولية ستقع في النهاية على الإدارات العليا.
- الخلاصة:
إنه من الصعب جداً القضاء على البيروقراطية في المؤسسات الإدارية والهيئات الحكومية، ولكن يمكن تطويقها والتقليل من آثارها بشكل ملموس من خلال توزيع السلطات للإدارات الفرعية وتفويض الصلاحيات للمديرين التنفيذيين.