م. خالد إبراهيم الحجي
إن حروب الأفكار هي في الحقيقة حروب كلامية يقودها ويخوضها المفوهون والأذكياء، وهي حروب في منتهى الأهمية كما قال أحد الزعماء (الأفكار أشد فتكاً من البنادق)، ومعارك الأفكار تعتبر حروباً حقيقيةً تبدأ دون أن تتضمن أي شكل من أشكال العنف كما أنها تخدم أغراضاً اجتماعيةً، أو اقتصادية، أو سياسية وتنطوي على نوايا وأفعال مناوئة يمكن تفسيرها بأنها عدوانية، وحروب الأفكار الكلامية تبدأ بالتراشق الكلامي والنزاع بين الرؤى المختلفة والمفاهيم المتباينة
والمعتقدات المتعارضة، ثم تتدرج في مستويات التوتر إلى أن تصل إلى درجة الصراع على الموارد أو الحدود أو الأرض، وتلعب دوراً أساسياً قبيل الحروب المسلحة في تعبئة الرأي العام والحشد الجماهيري وكسب التأييد الشعبي، وحروب الأفكار يمكن أن تتخذ عدة أشكال ولكنها في الغالب تقع في أربعة مجالات الأول: النقاش الفكري. الثاني: الحملات الحزبية والانتخابية. الثالث: النزاع الأيدولوجي (الآراء والأفكارالسياسية والمذهبية والطائفية والفلسلفية). الرابع: النزاع العقائدي. وجميع المجالات السابقة في الأساس تخدم هدفاً واحداً هو التأثير في الآخرين واستقطابهم وتجنيدهم. وفي حروب الأفكار تقوم الجماعات أو المجتمعات أو الدول بالتأثير الإستراتيجي في الرأي العام من خلال الدعوة أو الترويج أو التسويق لمصالحها محلياً أو إقليمياً أو دولياً، وميدان المعارك المستهدف لهذا الحروب هو قلوب وعقول عامة الجماهير، والوسائل المستخدمة في هذه الحروب متعددة وتشمل مراكز الحوار، والمقالات الصحفية، والمناظرات والبرامج التلفزيونية والبث الإذاعي الموجه والإنترنت، والسياسات الحكومية والدبلوماسية العامة.
وجميع الوسائل السابقة موجودة في الوطن العربي ومفعلة عدا مراكز الحوار غير موجودة، أو موجودة وغير مفعلة، وهي عبارة عن جمعيات أو هيئات تهتم بإجراء المناقشات الموضوعية لتقريب وجهات النظر المتباينة حول القضايا المتصلة بالمواضيع المختلفة الراهنة أو المستقبلية مثل ثقافات المجتمعات وحضارتهم، أو السياسات الاجتماعية، أو الأوضاع الاقتصادية، أو الإستراتيجيات السياسية، أو الجوانب العسكرية، ومن هنا تنشأ الحاجة الملحة إلى إنشاء مراكز الحوار في الوطن العربي لإجراء المناقشات الموضوعية، وتفعيل دور الحوار الوطني عن طريق تحليل وتفنيد الأفكار الخاطئة بالحجج القوية والبراهين الدامغة، للوصول إلى نتائج إيجابية وبناءة لتقريب وجهات النظر المتباينة وإنهاء الحروب الكلامية. ومراكزالحوار هيئات غير ربحية في الغالب يتم تمويلها من قبل جماعات الدعوة والإرشاد، أو قطاعات الأعمال، أو الحكومات، وفي الوقت الحاضر يوجد في العالم أكثر من 6800 مركز حوار معتبراً وذائع الصيت وجميع تقاريرها يعتد بها وتحظى بسمعة عالمية. وفي الدول الغربية الأحزاب السياسية بأنواعها المختلفة، المحافظين والمعتدلين والليبراليين، تعتمد على مراكز الحوار لإنتاج الأفكار اللازمة لصناعة السياسات الخاصة بكل حزب لإحراز النجاح والتقدم وكسب الأصوات في الحملات الانتخابية، وقد قام تنظيم داعش باستخدام حرب الأفكار الكلامية في حملات مكثفة عبر الإنترنت لاستقطاب الشباب وتجنيدهم، لذلك أصبحت الحاجة ملحة إلى وضع إستراتيجيات مناسبة لمواجهة الفكر المنحرف لتنظيم داعش. وفيما يلي الإستراتيجية التي أنتجتها مراكز الحوار في بريطانيا لمكافحة الفكر المتطرف وتبنتها الحكومة البريطانية لتنفيذها على أربعة مسارات متوازية كالتالي:
المسار الأول: هي مواجهة الأيدلوجية الداعشية وخلالها يتم الاستعانة بأشخاص يفهمون طبيعة الحياة داخل تنظيم داعش يوضحون للشباب القابلين للاستدراج الواقع الوحشي لأيدولوجية الفكر الداعشي، مع مطالبة شركات الإنترنت بتقديم الكثير من الفكر الوسطي المعتدل لمكافحة الفكر المتطرف ومحاربته على الإنترنت.
المسارالثاني: معالجة العنف والتعاطف معه (اللاعنف): والخطة المطروحة تتخذ خطواتٍ لمواجهة الجماعات والمؤسسات التي ربما لا تتبنى العنف ولكنها تتعاطف مع التطرف والإرهاب، وتعهدت الحكومة البريطانية في خطتها مكافحة الدعاة وزعماء الطوائف الدينية الذين يروجون للآراء المتطرفة، كما تعهدت بتقوية هيئة مراقبة الإعلام الأجنبي ومنحها الصلاحيات لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضد القنوات التي تستضيف دعاة الكراهية والتطرف.
المسارالثالث: تشجيع وتجريء المجتمع المسلم، حيث تعهدت الحكومة البريطانية بتوفير منصات لدعاة الوسطية والاعتدال والإصلاح وحثهم وتشجيعهم على التحدث وتفنيد الفكر المتطرف وإبطاله، وقد قال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في هذا الصدد: إذا كنت تريد أن تحمي أبناءك وبناتك فنحن معك سندعمك بمساعداتٍ عملية تشمل التمويل والحماية والحملات والتمثيل السياسي، كما وعد كاميرون بتأسيس منتدى للمشاركة المجتمعية للاستماع مباشرة لهؤلاء الذين يقفون في وجه التطرف ويحاربونه.
المسارالرابع: بناء مجتمع أكثر تماسكاً، وضرورة الابتعاد عن الفصل والعزل والتمييز العنصري في المدارس والمؤسسات والمجتمع وبذل الكثير لزيادة الدمج وتوحيد طبقات المجتمع، وقال ديفيد كاميرون: ليس المقصود اقتلاع الناس من منازلهم أو تغيير مدارس أبنائهم، وإنما المقصود إلقاء نظرة جديدة على شكل المستقبل المشترك الذي نريده لشبابنا.. والتكتيك الإستراتيجي الذي ينتهجه تنظيم داعش الإرهابي باستخدام الإنترنت يهدف إلى توصيل ثلاث أفكار أساسية:
الفكرة الأولى: إضفاء الشرعية الفقهية لأعمال التنظيم الإرهابية بنشرها عبر الإنترنت مع بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وبعض المقتطفات من أقوال العلماء.
الفكرة الثانية: تكبير حجم التنظيم الإرهابي وزيادة أعداده باستقطاب مزيد من الشباب.
الفكرة الثالثة: عرض مشاهد التنكيل والحرق والتفجير والقتل والصلب على الإنترنت لتخويف أعدائه. واستخدام تنظيم داعش الإرهابي للإنترنت بمهارة فائقة، وتسابق الفضائيات لنقل فظائعهم وجرائمهم وتمددهم على الأرض واتساع نطاقهم، مكنهم من استقطاب جيل جديد من الشباب وتجنيدهم ووضعهم رهن الإشارة لتنفيذ أهداف التنظيم وتنفيذ أعماله الإرهابية داخل الأوطان التي يسكنها هؤلاء الشباب. لذلك فإن الحرب على الإرهاب يجب أن تبدأ بمحاربة الأفكار المنحرفة ومكافحتها بكثافة دعائية شديدة لأنها شكل من أشكال الحرب النفسية والسياسية الطويلة الأمد، وتستهدف قلوب الجمهور وعقولهم لاستدراج الشباب وتجنيدهم، وهناك إدراك عند الإعلاميين، وخبراء مكافحة الإرهاب والمسؤولين بأن التحدي البارز في الوقت الحاضر هو الانتصار على الفكر الإرهابي، وذلك يزيد ويتفوق بكثير جداً على تحييد زعماء المنظمات الإرهابية وتفكيك الخلايا المتطرفة وتقويضها أو تدمير الشبكات الإرهابية، لأن السيطرة على انتشار سرطان الإرهاب والانتصار علية يتطلب تكتيكاً إستراتيجياً يستعيد زمام المبادرة لمكافحة أيدولجيات الآراء المتطرفة والفكر المنحرف.
الخلاصة :
إن مواجهة الآراء الضالة ومكافحة الأفكار المنحرفة يجب أن تبدأ في مراكز الحوار التي تكشف جوانب الاشتباه وتزيل اللبس أو الغموض بين الرؤى المختلفة والمفاهيم المتباينة والمعتقدات المتعارضة بالحجة والإقناع والبرهان.