د. فوزية البكر
في اليوم العالمي للغة العربية والذي وافق الجمعة الموافق الثامن عشر من ديسمبر 2015 أصدرت الأمم المتحدة ملصقاٌ يعبر عن ثراء اللغة العربية اللامحدود وفي ذات الوقت يعبر عن سماحة الثقافة التي ظهرت فيها هذه اللغة حيث وضع في الملصق أكثر من مائة مترادفة عربية وكلها تعبر عن المحبة والسلام.
وعدا عن أن أهمية اللغة العربية تأتي في المقام الأول كونها لغة القرآن الكريم الذي يقرأه أكثر من مليار مسلم حول العالم كل يوم تقريبا بما يجعلها الوسيلة الأولى التي يتم عبرها نشر الإسلام في بقاع العالم إلا أن الحقائق تدل أيضا على أن هناك أكثر من 422 مليون عربي يتحدثون اللغة العربية بغض النظر عن معتقداتهم الدينية بحيث كتب الكثير من التراث المسيحي واليهودي باللغة العربية.
فأذن اللغة العربية لغة أساسية في التراث الإنساني وهو ما جعل الأمم المتحدة تعتبرها اللغة السادسة في العالم وهي تقوم بنشر الكثير من تقاريرها الموجهة إلى الجمهور العربي باللغة العربية.
أذكر ذلك لتأكيد أهمية الحفاظ على هذه اللغة الفريدة في مواجهة أجيال لا تحب العربية ولا تعرف منها إلا ما تدرسه في الفصول الدراسية والذي تناساه حالما تضع أقدامها خارج أبواب الفصل الدراسي ولك ان تتأمل ما حولك من صغار ومراهقين وشباب يكتبون بلغة مكسرة ويلعبون يوميا بألعاب عمادها اللغة الإنجليزية ويستخدمون كل أشكال التقنية تقريبا عبر تطبيقات متنوعة للغة الإنجليزية.
أنا بالطبع لست ضد تعلم اللغات بل إنني أنادي به منذ بدأت الكتابة إذ أظهرت الدراسات أن الطفل قادر على تعلم أكثر من لغة وقد تصل إلى أربع لغات إضافة إلى لغته الأساسية إذا ما توفرت المناخات التعليمية والثقافية المناسبة لذلك لذا فمعرفة اللغة الإنجليزية تحدثا وكتابة أصبح مطلبا أساسيا لا نتحدث عنه بل إن في كل طلب عمل يقدم حاليا في الولايات المتحدة أو أوروبا لا بد أن تجد خانة تسأل عن اللغة الثالثة التي تتحدثها فهم يفترضون أنك تتحدث لغتك الأم إلى جانب اللغة الإنجليزية ومن ثم فتعلم اللغات أصبح أمرا حتميا في واقع ثقافة العالم اليوم ولكن بعد اشتراطات أهمها إجادة اللغة الأم عبر استخدامها اليومي في حياة الطفل منذ يولد لتكون وسيلته الأساسية للتعبير عن أفكاره كما أنها إلى حد كبير تحدد هويته ومشاعره تجاه أمته وثقافته التي لا تنحصر فقط في التراث الديني بل تشمل كل أشكال التعبير في مختلف مجالات الحياة حول الطفل وهنا تأتي معضلة الطفل السعودي الذي هو الآن ربما كان شابا أو بعضهم في مرحلة المراهقة أو في مرحلة الطفولة ومعظمهم يعانون من مشكلات قدرتهم على التعبير بلغتهم الأم : اللغة العربية.
وإذا أحمد الله على أشياء كثيرة أنعم بها علي فلعلي أيضا أتذكره وأحمده حمدا عميقا ووافرا علي أنه لم تربني عاملة منزلية وكنت أصحو كل صباح لأذهب إلى المدرسة فأجد وجه أمي الذي ليس بالضرورة أن يكون بشوشا كل يوم مع البرد أو الحمل أو المرض لكنها كانت تعطر صباحاتي كما أتذكر بكلماتها العربية العامية الرصينة الواضحة وتقدم لي الإرشادات اليومية لأنظف أسناني مثلا وألبس مريولي أو أساعد أخي أو أختي وهو ما ثبت هذه اللغة في ذاكرتي وجعل لها قبولا ومعنى في عقلي حين بدأت أتعلمها في المدرسة كلغة فصحى. لماذا أركز على هذه التفاصيل ؟ لأن الدراسات العلمية تثبت أن التعليمات والإرشادات اليومية المعطاة للطفل هي أحد العوامل التي تساعد على زيادة حصيلته اللغوية ولذا فمن المهم ذكر مسميات الأشياء عند الحديث للطفل وليس فقط ( رح هناك ) أو ( جب ذا أو ذاك ) وهو ما نفعله هنا بحيث نقلل من المخزون اللفظي للأطفال. الآن نحن أمام مشكلة أكبر بكثير من (هذا وذاك) وهي أن من يعتني بالطفل ويتحدث معه حول احتياجاته اليومية ويأخذه إلى سريره هن من الناطقات بغير اللسان العربي من عاملات منزليات. والمشكلة لا تقف عند هذا الحد حيث إنني لا ألوم أي أحد في استعانته بالمساعدات المنزليات لتغير أنماط الحياة وتعقدها وارتفاع سقف التوقعات الاجتماعية التي علينا مقابلتها من حيث طبيعة البيت ونظافته وطبيعة ما يقدم من مراسم وطعام إلخ من كل هذه التعقيدات التي سهلتها الطفرة بما يحتم وجود مساعدة لكن المشكلة هي أن هذه المساعدة قد بليت أيضا ليس فقط بإسناد كافة مهام المنزل لها بل بالعناية بالصغار مما يمنع الطفل من التحدث في طفولته بلغته الأم فلا تثبت قواعدها في ذهنه.
مشكلة أخرى هي أن الشابات يعتقدن أن الحديث باللغة الإنجليزية مع أطفالهن هو الأفضل حيث سينمي هذا من مهاراتهم اللغوية في هذه اللغة الإنجليزية التي هي مطلوبة اليوم في كل حقل.
هنا تأتي مشكلتان: الأولى أن اللغة الإنجليزية المحكية من قبل معظم هؤلاء الأمهات و العاملات المنزليات هي لغة متواضعة ألفاظا وقواعد ومن ثم فحجم الألفاظ التي يتعلمها الطفل للتعبير عن نفسه ومشاعره واحتياجاته محدودة جدا بل مكسرة وبلهجة البلد الذي تأتي منه العاملة.
والثانية أن الأمهات يفاخرن بالحديث إلى الطفل باللغة الإنجليزية وأنه يعرف هذه اللغة مع أن أي أحد يعرف القليل من اللغة الإنجليزية سيعرف أن هذه اللغة المحكية ضعيفة في تراكيبها وهذا يتم على حساب تعليم اللغة العربية خاصة وأن معظم الروضات والمدارس الخاصة التي يلتحق بها هؤلاء الصغار لاحقا تعتمد اللغة الإنجليزية في مناهجها لجذب زبائنها ولا تعير أي اعتبار للغة العربية وهنا يأتي الخطر الذي نراه حولنا: لا أحد من الأجيال الجديدة يحب العربية أو يرغب في التعامل بها لأنه لم يعتد عليها وهي في ذهنه صعبة خاصة وأن كل ما حوله من ألعاب وأفلام وأغان ونشاطات تدور باللغة الإنجليزية فأين المخرج ولماذا تتعقد مشكلات اللغة العربية بهذا الشكل في أذهان الأجيال الجديدة ؟ سنناقش ذلك الخميس القادم بإذن الله.