د. فوزية البكر
السعوديون هم الأكثر في الزيارة والتفاعل مع وسائل التواصل الاجتماعي، فهناك مثلاً أكثر من عشرة ملايين تغريدة توترية تنطلق من أرضنا كل يوم. لا أستطيع بالطبع شرح الطريقة التي يجد بها الناشطون، خاصة من الرجال كل هذا الوقت ليقضوه مع تويتر ولكن متابعة بعض هذه التغريدات أو الغضب والإحباط الذي يعبر عنه البعض من الطريقة التي يسيء فيها كثير من التويتريون
إلى موضوع أو شخصية أو قضية فقط لأن حدثا ما أو كلمة قيلت (كما في حال وزير الإسكان مثلاً وغيره) لينطلق الركب حاشداً قواه في تغريدات عجيبة أو إعادة نشر التغريدة مرات ومرات دون التحقق من طبيعة القضية أو دقة المعلومات التي ترد من جرائد سيارة أو صحف إلكترونية أو حتى مجرد تصور الحالة النفسية للشخص الذي يهاجمونه، وغير ذلك من الأفكار التي كان يجب أن تخطر على بال كل من يجرؤ على الدخول العلني إلى هذه المنصات، وفي الكثير ينتهي بإساءة استعمالها إلى الدرجة التي دفعت بكثير من الكتاب والمحللين إلى محاولة فهم عقلية (بعض السعوديين) في تعاملهم مع وجهة النظر المختلفة سواء من حيث الاطلاع أو المناقشة ثم القبول والرفض، فكل هذه التقاليد العريقة في الحوارات داخل المجتمعات المتقدمة لا يوجد لها أثر بين ظهرانينا.
لماذا؟ هل لأننا شعوب (همجية) (وغير (متحضرة) أو متعلمة بالقدر الكافي أم هو الحرمان من منصات عامة يحقق فيها المواطنون رغبتهم في المشاركة بما يدفعهم إلى الالتجاء للشقيق (تويتر) ليصبوا جام غضبهم وإحباطهم على كل موضوع عابر.
أتوقع بالطبع أن هذا جزء عميق وغير بسيط من المشكلة، فالمواطن في وقتنا الحاضر يسعى إلى أن يتوافر لديه حتى الحد الأدنى من القدرة على المشاركة في صنع القرار العام عبر المشاركات الشعبية المختلفة، ولذا فحين لا توجد كما في معظم مجتمعاتنا العربية لذا يلجأ الإنسان إلى منصات افتراضية يشعر من خلالها بأنه يشارك آخرين غير مرئيين بوجهات نظره المختلفة فيما يعن له من أحداث.
لكن ما يجعل الكثيرين يتصرفون بطريقة (غريبة) وغير حضارية عبر الدخول في مناقشات عقيمة وسب شخصي.. إلخ، هو في رأيي عدم التدرب على أساليب أكثر حضارية في النقاش، ومنها مثلاً أسلوب المناظرة الذي تستعمله معظم المؤسسات التعليمية والسياسية في كل بلدان العالم من أجل مناقشة القضايا المجتمعية أو البيئية أو السياسية وتعليم الأفراد كيف يكونون إما مع القضية المثارة أو ضدها، مع فهم ووعي بأسباب القبول أو الرفض.
والمناظرة هي شكل من أشكال الخطاب العام، حيث تحدث مواجهة بلاغية بين متحدثين اثنين أو أكثر حول قضية معينة ضمن وقت محدد وتُقدّم فيها حجج مُتَعارضة أو مُتصادمة، وغالباً ما تنتهي بتصويت من الجمهور أو لجنة تحكيم بما يُفْضي إلى ترجيح كفَّة حجج أحد الطرفين.
والمناظرة تقتضي طرح قضية يَتناظر حولها فريقان مُتعارضان، ويُدْعى الفريقُ المؤيد للقضية فريقَ المُوالاة وهو من يؤيد القضية أو الموضوع الذي يُتناظر حوله ويَدْعَمه ويدافع عنه، أمّا الفريق الذي يُعارض موضوع المناظرة ويُفنّد أطروحة فريق الموالاة وحججه فيُدْعى فريق المعارضة.. وهكذا، فإن فريق الموالاة يحاول إثبات رأيه الذي يساند موضوع المناظرة، بينما يحاول فريق المعارضة أن يُفنده وأن ينفيه. ومن الضروري أن يأخذ فريق الموالاة موقفاً واضحاً تجاه الموضوع الذي تتناوله المناظرة.
لماذا نتحدث هنا عن ضرورة التدرب على المناظرات كجزء أساسي من نشاط بيئاتنا التعليمية؟ لأنها ستساعد على خلق عقول منطقية تفكر فيما يطرح أمامها قبل أن تتعجل بإصدار الأحكام عليه، ولذا فمن حسنات المناظرة أن الفرد يتعلم من خلالها مبادئ التسامح واللاعنف واحترام وجهات نظر مختلفة، من ثم يمكن من خلال المناظرة سد الفجوة ما بين ثقافات الأغلبية والأقلية وما بين المجموعات الأخرى المنقسمة بواسطة العداوات التي طال أمدها سواء كانت مجموعات دينية أو مناطقية أو جنسية أو عرقية.
وحين يتعلم الفرد قيمة فحص كل فكرة يطرحها ويتعلم كيف يرتب ويرى جوانبها الإيجابية والسلبية، يستطيع أن يقيم ما يقدم له سواء عبر ناشطين أو عبر الألعاب الإلكترونية أو تويتر أو خلافه. الفكرة أن المناظرة وإن عنت الاختلاف في الرأي فهي حقاً يجب ألا تخيفنا كما نرى في موقف مؤسساتنا الأكاديمية وعلى رأسها الجامعات التي لا تقدم المناظرات بين طلابها إلا فيما ندر وبجهود ذاتية متفرقة هنا وهناك لجماعات بسيطة من الطلاب ضمن نشاط يقدمه أستاذ أو جهة، لكنه ليس تمريناً أساسياً لا في الثانوية ولا في الجامعة رغم أن ثانويات معظم الدول المتقدمة كافة، تضم نادياً يسمى الأمم المتحدة بحيث يمثل الطلاب البلدان المختلفة ويمارسون نفس الإجراءات التي تتم في داخل أروقة الأمم المتحدة، من حيث الدفاع عن قضية ما تخص بلداً معيناً، ثم الرد على حجج المعارضين، مع مراعاة الوقت المخصص لكل متحدث، وتجرى هذه المناقشات داخل المدارس، ثم تنقل المناظرات لتصير بين طلاب الولايات، ثم بين طلاب بلدان أخرى، بحيث يتعلم الطلاب كيف يرتبون حججهم المقنعة وكيف يحسنون الإلقاء والمحاججة بمنطقية، وهذا بالضبط ما ينقص هذه الأمة التي يهجم أفرادها عبر بوابات التواصل الاجتماعي على كل موضوع كما لو كانوا في أقفاص مغلقة، وتبدأ حفلات الجدال والسباب بطريقة غير حضارية ومدمرة.
لذا وعبر «الجزيرة»، أدعو وزير التعليم أن يفرض علينا جميعاً في مراحل التعليم المختلفة تبني نادي الأمم المتحدة لتعليم طلابنا أصول المناظرات التي ستعلمهم أن يكونوا منطقيين وقادرين على رؤية الاختلاف والتعامل معه بحضارية، وهذا سينعكس بشكل عام على خلق إنسان سعودي منطقي يفهم الآخر كما يطالب هو دائماً بأن يفهمه هذا الآخر المختلف، كما سيعرف عن الدول التي سيتبنى الدفاع عنها بما يخرجه من أطر الخصوصية المرضية التي تحاول قوى اجتماعية متعددة أن تفرضها كطوق يبرر هذه الأحادية الثقافية التي فرضوها علينا.