د. فوزية البكر
لنتخيل رجالاً مقيدين في عمق كهف، ينظرون إلى الحائط الموجود أمامهم في عمق كهفهم، ويرون ظلالا متحركة، ويعتقدون أن هذه الظلال هي العالم وما يجري فيه. ولكن هذه هي ظلال مسقطة من نار موجودة خلفهم، وهي ظلال أشياء تمر أمام النار التي تسقط. هذه الظلال على حائط الكهف والتي يعتقد ساكنو الكهف أنها حقيقية.
ولكن الأشياء الحقيقة تمر خلفهم و ما يراه الساكنون هو فقط ظلالها. فإذا استطاع أحدهم التحرر من القيود والخروج الى خارج الكهف- أي إذا استطاع أن يجتاز الحد الفاصل بين الرأي والعلم .. فأول ما يواجهه عند الخروج من الكهف هو سطوع النور القوي في عينيه التي يجب أن يعودهما تدريجيا على النور، لأنه لن يستطيع ان يواجه النور دفعة واحدة، لكنه تدريجيا سيرى الأشياء الحقيقة أولا - يرى النماذج التي كانت اصلا لتلك الظلال - ومن ثم سيرى ما حوله من أشجار وزهور وبيئة طبيعية، وكلها منارة بنور الشمس, ومن ثم سيرى النجوم والقمر, وأخيرا الشمس نفسها, وبعد ذلك سيفهم أن نور الشمس هو سبب تغير الفصول, وسبب كل شيء كما نعرفه, بما في ذلك الظلال المسقطة على حائط الكهف. ولذا فإذا ما قرر هذا الساكن العودة إلى الكهف, وسرد ما رأى على من لا زالوا قابعين في الكهف فسيسخرون منه وربما يحاولون إيذاءه وسيتعب هو في عالم الظلام لأن سكان الكهف سيفضلون عليه الأشخاص البارعين في رؤية وتفسير الظلال.؟
قصة الكهف تلخص ببساطة كيف أننا وبفعل المؤثرات الثقافية والاجتماعية حولنا لا نتمكن من رؤية الأشياء كما هي بالفعل، ولا يصلنا منها إلا الظلال التي تقع على حائط الحياة التي تسمرنا أمامه، ومن ثم فما نعتقد أنه صح أو خطأ، جمال أو قبح، محبة أو كراهية ، صدق أو كذب أنما يعبر في الحقيقية عن أحكام من يتحكمون بالظلال وبمن يسمحون لها أن تعبر من وراء الظلال لكنه لا يعبر فعلا عن حقيقة الأشياء كما هي موجودة فعلا ،عن أشكالها الحقيقة وألوانها وآثارها على حياتنا، ومن ثم فكل ما حولنا .. كل ما نراه لا يعبر بالضرورة عن حقيقية الأشياء قدر ما يعبر عما يسمح به من يتحكم في النار وفي الظلال.
بماذا يذكركم ذلك؟ هو يذكرنا حالنا اليوم:
بين من يريد البقاء في الكهف مكتفيا فقط برؤية الظلال التي فرضها عليه الآخرون، ومن يريد الانعتاق والانطلاق إلى النور بحثا عن الحقيقة فأيهما نتبع؟ إنها مشكلة جيل بكامله.
قد تبدو بديهية بالنسبة للغرباء عن ثقافتنا المحلية فمن يرفض النور؟ من يرفض العلم ؟ نعم، ولكن ما هو النور وما هو العلم ؟
هذه هي المجادلة التي لن تنتهي في السعودية و في عالمنا الإسلامي المضطرب بمفاهيمه وقيمه المتغيرة والتفاسير المختلفة للمفاهيم الدينية والتي تدفع بآلاف الشباب والآن (الشابات) إلى أتون جهل الجحيم ورفض الحياة، والانتحار وهو الأمر الذي دفع مؤخرا بأحداث باريس البشعة وتلتها أحداث سانت براندينوا في لوس انجلس حيث عمدت مسلمة باكستانية جاءت لتعيش مع زوجها لكنها قادته للتطرف ليذهبا الي حفلة معاقين حيث يعمل زوجها فيقتلان 14 شخصا ويصيبا 17 والارهابية قبلت بترك طفلتها ذات الأشهر الستة لعالم مجهول والتي ربما لاحقا ستوصم بأنها طفلة الإرهابيين اللذين قتلا زملاء العمل .
هل هناك أكثر بشاعة من أن يتساوى الموت مع الحياة ؟
خلقنا سبحانه وتعالى لنعمر هذه الأرض على كثرة اختلافاتنا التي أوجدها سبحانه والآن نختلف حول :كيف لكل منا أن يسيطر بقناعاته وقيمه التي يفرضها على الآخرين حتى يتأكد بأنهم لا يرون سوى الظلال!
حين كتب الفيلسوف اليوناني أفلاطون هذا النص قبل ألفين وخمسمائة سنة تقريباً لا أظنه حتى في أفضل حالاته العقلية قد تصور أننا وبعد كل هذه الآلاف من السنين سننظر إلى ما كتبه لا كجزء من التراث البشري المتراكم عبر تاريخ الحضارة الإنسانية، بل اننا سنستخدم هذا النص لتفسير واقع لا زال يعاش في بعض مجتمعاتنا الإنسانية في العصر الحاضر !!
هل نقبل هذا التدني ونعيش تحت مظلة الظلال؟ لا أظن. أرى أن الأجيال الجديدة من مجتمعاتنا العربية و تحديدا في السعودية لم تعد تحتمل حياة مزيفة وأنها الآن تسعى إلى أن تحدث ثقبا في شاشة الظلال، وهي نجحت بفعل كل هذا الاضطراب الذي يحدثه من يمسك ويحاول تثبيت الشاشة حتى لا تهتز الظلال.
نقول لهم الآن: حان الوقت وغادرونا. ورغم البركان الذي نقف فوقه إلا أننا نرى السارية من بعيد تؤشر لنا لنصل الى بر الأمان ... نعم، ربما بعد وقت ليس بالقصير ولكننا على الأقل نرى آثار الشمعة من بعيد.
في النهاية إلى ماذا يمكن أن تفضي قصة الكهف ؟
تماما، كما أنهاها من بدأها: أفلاطون نفسه: إنه يقول: العودة الى الكهف بعد رؤية العالم الحقيقي -الذي هو العالم الفكري-هو قبل كل شيء واجب أخلاقي!
من خرج ورأى النور فعليه مسئولية العودة وإقناع المقيدين بالخروج ورؤية العالم الحقيقي،كما هو ومهما كان الثمن.