د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يصادف يوم 18 ديسمبر اليوم العالمي للغة العربية الذي أقرته اليونسكو، ولا غرابة في ذلك فاللغة العربية حسب ويكبيديا رابع لغة من حيث المتحدثين بها بعد الإنجليزية والصينية والهندية، ويتحدث بها480 مليون، وذلك استثناءً للغات أخرى ذات التصاق بالعربية كالسواحلية،
والمالطية، وعرب تركيا، وإيران وغيرهم وأعداد كبيرة من المسلمين الذي تشكل العربية لغة ثانية بالنسبة لهم لأنها لغة القرآن.
جميل أن نفتخر بلغتنا التي هي هويتنا والوعاء الفكري لتراثنا وتحتكم على أسلوب تفكيرنا. ولا شك أنه يجب علينا الاعتناء بلغتنا ورعايتها والحفاظ عليها، لكن ذلك لا يعني بالضرورة تجميدها وتطبيق السلفية اللغوية بحقها. كما أنه تجب الاستفادة من علوم اللسانيات الحديثة ليس في تجديد اللغة فحسب، ولكن في تجديد نظرتنا لها ونظرياتنا حولها. فاللسانيات الحديثة علم تطور كثيرًا وهو يعنى باللغة الانسانية المحكية (تسمى هكذا حتى ولو كتبت لتمييزها عن لغة الكائنات الأخرى) كهبة من الله. ويعزى للسانيات الحديثة الفضل في محاربة الاطروحات اللغوية العنصرية التي كانت تقول بتفوق اللغات الأوربية على غيرها والتي كانت تقول بها بعض «الأكاديميات اللغوية الأوربية» إبان المد القومي الأوربي في القرن التاسع عشر، كما أن لها الفضل في إثبات أن اللغات البشرية على مستوى متقارب من التعقيد والجمال، ولا مجال لمقارنة اللغات ببعضها. ونعرف اليوم بشكل علمي أن لكل لغة ظواهر خاصة بها لكنها لا تميزها على غيرها. فعلميا اللغة العربية لغة كسائر اللغات وقيمتها هي في اسهاماتها الحضارية والدينية.
وشيء جميل أن نفتخر بلغتنا، لأنه لكل شعب أن يفخر بلغته فهي في نهاية الأمر عقله ووجدانه، ولكن هذا الافتخار يجب أن يبتعد عن التعميمات غير العلمية وعما يجنح بنا للتعصب و»المركزية اللغوية» التي تحاول تميز اللغة العربية على غيرها لأن هذا الكلام وإن رددته بعض المجامع اللغوية العربية ليس صحيحا. وبما أن الشيء بالشيء يذكر فالمجامع العربية ربما أسست على نمط الأكاديميات الغربية للغات كالأكاديمية الفرنسية التي أسست في 1793 لحماية ودعم اللغة الفرنسية، والأكاديمية الملكية الأسبانية في 1713م وغيرها من الأكاديميات. وزاد زخم الاعتناء بالغة العربية إبان المد القومي العربي في أوائل القرن العشرين بتأسيس أول مجمع لغوي عربي في القاهرة عام 1892م، وتبعتها مجامع للغة العربية في عواصم عربية أخرى.
عموما قدمت مجامع اللغة العربية خدمات جليلة للغة العربية ولكنها تمحورت حول كيفية الحفاظ عليها من التغير واللحن وعلى نشر التراث اللغوي العربي، وأحياء المفردات العربية القديمة لاستخدامها في مدلولات حضارية حديثة. عموما لم يختلف أداء المجامع اللغوية عن أداء مثيلاتها من الأكاديميات الأوربية ولم تأت جهودها بالنتائج المتوخاة وأثبتت وسائل الإعلام بمختلف أنواعها تفوقها في إحداث تغيرات لغوية جذرية في اللغة العربية عدها كثير من حماة اللغة عشوائية ومضرة. ولا يمكن اغفال اضطرار وسائل الإعلام لنقل كثير من مفردات الحضارة الحديثة لحظياً وتعميمها أما «بنقحرتها» (نقلها حرفيا) أو ترجمتها، أو ما يسمى تعريبها، أو اختيار مقاربات لفظية عامية لها. فليس لدى وسائل الإعلام الوقت أو ربما القدرة على الغوص في معاجم اللغة العربية أو البحث عن «إجماع» فقهاء اللغة حول أفضل السبل لنقلها. والواقع أن هذا الوضع ليس مقتصراً على مجامعنا اللغوية العربية بل شمل أيضًا زميلاتها الأوربية التي لم تفحل التي القلاع التي شيدتها حول لغاتها في حمايتها من المد اللغوي الخارجي وخاصة مد اللغة الإنجليزية التي تعد اللغة الأولى في العالم اليوم.
والغريب أن اللغة الإنجليزية ذاتها هي اللغة الوحيدة التي لا يوجد لها أكاديمية واكتفى الإنجليز عوضاً عن إنشاء أجهزة للدفاع عنها بكتابة أول قاموس في عام 1755م مهمته رصد مفرداتها وتأثيلها، واهتموا بالبحث اللغوي الذي يرصد ويوثق ما يدخلها من مفردات، أي أنهم ابتعدوا عن المعيارية منذ وقت مبكر.
وفي أواخر السبعينيات كانت محاولات لسانية جادة لتأسيس علم «للتخطيط اللغوي» يتدخل في أوضاع اللغات في المجتمعات لإصلاحها أو تعميمها كلغات معيارية، وسريعا ما استنتج أصحاب هذا العلم عمليا عدم جدوى محاولات التدخل في مسار اللغة في المجتمع واتضح أن للغة زخما كاسحا خاصا بها لا يسمح بالتدخل فيه ولا الوقوف في وجهه. وهو زخم متعدد المصادر: اجتماعي، وعلمي، وثقافي، واقتصادي، وسياسي. وهذا ما يوضح أسباب فشل حركات ما سمى «بالتعريب» في العالم العربي، ولتونس على وجه الخصوص تجربة رائعة موثقة في ذلك وصلت للقناعة ذاتها. واليوم نعرف علميا مثلاً أن اللغات على المستوى ذاته من التعبير، وأن كثرة المفردات في لغة ما قد لا يكون ظاهرة صحية دائماً، وأنه لا توجد لغة في العالم لم تستعير مفردات من لغات أخرى.
وربما فطن أسلافنا لهذه الحقائق مبكراً فهم سبقوا الإنجليز في تأليف المعاجم والفوا معاجم فريدة مثل «لسان العرب لأبن منظور، و»القاموس المحيط» للفيرزأبادي، وهي أعمال معجمية رائدة لها دور جبار في الحفاظ على اللغة العربية ولها عادة يلجأ العاملون في المجامع العربية اليوم. وباستثناء جهد مشكور للشدياق في أحياء هذا التراث في بداية القرن السابق لا يوجد جهد معجمي بارز في توثيق اللغة العربية وصفياً وليس معياريا. واليوم تطورت الدراسات المعجمية والمصطلحية، وكذلك علوم الذخائر اللغوية بشكل غير مسبوق، ورغم وجود أكثر من عشر كليات للغات والترجمة في المملكة وحدها ناهيك عن الدول العربية الأخرى لا يوجد قسم واحد للمعجمية والمصطلحية فيها. وهناك شبه إجماع على أن نقص المصلحات العلمية الحديثة هو العائق الأكبر لكتابة العلوم العربية باللغة العربية، وهو العائق الأول لتطورها ومواكبتها علوم العصر.
وسبق وكتبت لمدير جامعة الملك سعود الأسبق مقترحاً بهذا الخصوص هذا بعض ما ورد فيه:
- أن تصدر الجامعة معجم علمي كبير يحمل اسم المملكة أو الجامعة، على غرار معاجم «أكسفورد» في بريطانيا أو «وبسترز» في أمريكا، أو «مايكرو روبير» في فرنسا. تتفرع من المعجم الرئيس مجموعة من المعاجم الأصغر حجماً في مختلف المجالات العلمية تنجز في مجالات متخصصة بالتعاون مع كليات الجامعة المعنية. فكما تعلمون هناك فراغ كبير في العالم العربي لمثل هذه المعجم ولم تتصدى لذلك أي مؤسسة علمية حتى يومنا هذا، ولا يوجد في العالم العربي إلا بعض المعاجم الصغيرة التي أعدت بجهود فردية.
- يتزامن ذلك مع إنشاء قسم للدراسات المعجمية (Lexicography)، والدراسات المصطلحية (Terminology) في كلية اللغات والترجمة تكون الدراسة فيه مزيج من التعليم النظري والتدريب العملي على إنجاز المعجم. ولا شك أن ذلك سيكون استثماراً عملياً لكلية مثل كلية اللغات.
- يأخذ إنتاج المعجم طابع تراكمي يزداد كماً ونوعاً مع مرور الوقت، ويمكن استثماره اقتصادياً بشكل يعود على الجامعة بريع يفوق تكاليف إنتاجه بكثير.
- سينظر لهذا المشروع على أنه مساهمة وطنية وقومية رائدة من الجامعة والمملكة في جهود توطين المعرفة، وتعريبها، ومساهمة في الحفاظ على اللغة العربية. وهو أيضاً مجال من مجالات استثمار المعرفة في اقتصاد المعرفة.
- يمكن إصدار نسخة إلكترونية من هذا المعجم على بوابة الجامعة بحيث تشجع كل من يراجع هذا المعجم على زيارة الموقع ووجود معجم جامعة الملك سعود في أرفف المكتبات العلمية، والمكتبات التجارية، ومكتبات الباحثين الخاصة يعد تذكير دائم وهام بمكانة الجامعة.
وعموما شرح عليه معاليه باستحسان الفكرة إلا أنها ضاعت في زخم الفوضى التطويرية آنذاك، لاسيما وهي تتطلب جهدا علميا جادا. ثم سمعت عن مركز للملك عبد الله لخدمة العربية سمعت وأنه تحولااا فيما بعد لما يشبه المجمع اللغوي العلمي، وتبنى المركز خطة «للتخطيط اللغوي للغة العربية» لا أعرف من اقترحه عليها. و تواصلت مع أحد أعضاء المؤسسة بفكرة المعجم ولم يبد حماسا، وكالعادة لملمت أوراقي، واحتفظت بتفاصيل المشروع الذي تذكرته هذه الأيام وأنا اراقب خدمات الإشادة اللفظية للغة العربية كمحاولة لخدمتها في يومها العالمي.