د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
البطالة ظاهرة اقتصادية عالمية، ولا يوجد اقتصاد بدون بطالة، بل إن بعض الاقتصاديين يرى أن وجود بطالة معقولة النسبة ضرورة للنمو الاقتصادي لأن القوى العاملة العاطلة هنا ينظر لها على أنها قوة عمل احتياطية تمكّن من توفير العمالة عند بروز حاجة مفاجئة لها،
... وتسهم أيضاً في ضبط سعر العمالة العاملة في الاقتصاد وتمنع تضخم الأجور. ويمكن القول إن البطالة ضمن نسب مقبولة من متلازمات الاقتصاد الرأسمالي الحر.
وتتنوع البطالة في طبيعتها ونسبها من اقتصاد لآخر وكذلك تتنوع من حيث طرق التعامل معها وتخفيف وطأتها، ففي اقتصادات الرعاية الاجتماعية مثل اقتصادات دول الديمقراطيات الاشتراكية كالدول الاسكندنافية، وبعض دول وسط أوربا كالنمسا حيث ترتفع معونات البطالة وأموال الضمان الاجتماعي الأخرى تتكرر ظاهرة تهرب العاملين من العمل بطرق مختلفة ليعيشوا على إعانات البطالة المجزية، وفي دول تؤكد على الحرية الفردية كبريطانيا حيث يمكن تزييف الوثائق بسهولة يخفي البعض عملهم ويحصلون إضافة لذلك على معونات البطالة، ويكون ذلك من خلال الاتفاق مع أرباب العمل الذين يحاولون إخفاء جزء من أعمالهم عن مصلحة الضرائب. وفي كلتي الحالتين والحالات الأخرى المشابهة تنظر هذه الدول لعمليات التحايل على أنها تشمل جزءا بسيطا من العمالة ولا تشكل ظواهر واسعة الانتشار، لكنها رغم ذلك تشدد العقوبات على من يدان بالتهرب من الأنظمة والقوانين الضريبية. أما لدينا حيث يكافأ توظيف المواطن بمنح فيز لاستقدام وافد يسيل لها لعاب بعض المتلاعبين فقد ظهرت عندنا ظاهرة التوظيف الوهمي، بدلاً من البطالة الوهمية.
ولذا فلا غرابة أن يكون لنا في المملكة بطالة خاصة بنا تأخذ شكلها من اقتصادنا المعتمد أساسا على مصدر دخل واحد، وحيث يعتمد جزء كبير من القطاع الخاص على المشاريع الحكومية وعلى الإنفاق الحكومي، وحيث تجد الحكومة نفسها مضطرة لتوظيف قطاعات كبيرة من القوى العاملة في وظائف حكومية بدون حاجة ضرورية لها، مما وصفه البعض بالبطالة المقنعة، أي العمالة التي تثقل كاهل الحكومة بالرواتب بدون أن تكون عمالة منتجة. والتي وربما كان الأجدى للحكومة لو أنفقت الأموال التي تصرفها على رواتبهم في مشاريع منتجة، ربحية أو غير ربحية، توظفهم، ولكن الدولة رأت ترك المشاريع للقطاع الخاص في مجمل الأحوال.
أما ما أقصده «بسعودة البطالة»، فهو أن قضية البطالة لدينا بدأت تأخذ شكلاً سعودياً خاصاً، شكلاً يبدو أحيانا متناقضا. فبطالتنا العالية نسبيا تتزامن مع وجود قوة عمالية ضخمة مستوفدة تعادل نصف العدد الإجمالي للسكان وليس فقط عدد السكان القادرين على العمل، وهذه ظاهرة ربما تفردنا فيها اقتصاديا. فالعمالة الوافدة تفوق أعداد القوى العاملة التي تحتاجها البلاد وفي مجالات قد لا نحتاجها أصلاً. وبنظرة فاحصة للأمور نجد أننا نستورد عمالة يكون من مهامها الأساسية سد حاجة العمالة الأخرى الوافدة من الخدمات، فالخدمات التي توفر لما يزيد عن 11 مليون وافد لا شك تحتاج عمالة كبيرة لتوفيرها. ونحن نخطئ أحيانا بالنظر لهذه العمالة على أنها وقتية ومغادرة، إذ إن بعضها قدم ليستوطن وبعضها استوطن فعلاً وأصبحت أجيالهم الثانية والثالثة تعمل في البلاد دونما حاجة لتصاريح أو سعودة. فكلما زادت الأنظمة التي تحث على توطين الوظائف زادت معها نسب العمالة الوافدة.
القضية هنا ليست قضية استقدام للعمل فقط وإنما هي ثقافة استثمار ضربت في مفاصل المجتمع والاقتصاد وتتمثل في «الاستثمار في الاستقدام»، أو الاتجار بالفيز، وهي سوق سوداء مربحة لا تتطلب جهداً. وهذه التجارة وللأسف تُمارس من قطاعات المجتمع المختلفة كل حسب حجمه ونفوذه. ومن أجل هذه التجارة المربحة أنشأ البعض مؤسسات وهمية، وضخم وهمياً نشاطات أخرى، وتم التوظيف الوهمي، وزيفت الأوراق وتم بيع الخدمات الداخلية لبعض الإدارات، و.... والأسوء أن هذا النظام ظلم أصحاب الأنشطة الحقيقية في المجتمع بتشديد الإجراءات عليهم، حيث دخلت هذه العمالة كمنافس غير شريف أحيانا لهم، وأصبحت القيود التي تفرض على منح الفيز تضر بأعمالهم. وكثير ممن يتاجرون بالفيز لأرباح عاجلة وقتية، لا يدركون أنهم يضرون اقتصاد بلدهم بشكل منهجي. ولذا فالخطوة الأولى للحد من التستر والاتجار بالفيز يكون بأن توعي وزارة العمل المجتمع بأضرار الاتجار بالفيز، وأن يستفتى بعض المؤثرين في المجتمع في ذلك، وأن تنشر وزارة العمل، إذا اضطرت، على موقعها قائمة أسماء جميع من صرفت لهم فيز على اعتبار أن الجميع منحوا هذه الفيز للصالح العام، وهذا سيساعد كثيراً لجان مكافحة التستر، وربما يحرج بعض أصحاب الأنشطة الوهمية. فلا يمكن مكافحة التستر بالتستر على من صدرت لأنشطتهم الفيز.
معظم رجال الأعمال لدينا يتسمون بالأمانة ويتصفون بالوطنية، وكثير منهم يتبرع في أوجه الخير معظم ما يكسبه من أنشطته التجارية، وبعضهم يرغب ويفضل أن يوظف الشباب السعودي، ولكنهم مع ذلك عندما يستثمرون في قطاعات منتجة تحتاج لعمالة يدوية لا يجدون سعوديين راغبين في العمل في مثل هذه الأنشطة، ولذا فهم يرون أن السعودة يجب أن تركز على الوظائف التي يرغب فيها السعوديون. ووزارة العمل تحسب السعودة على أساس عموم المنشأة وليس بطبيعة الوظائف بها. وتعامل المنشآت بمختلف قطاعاتها بالسياسة ذاتها تقريبا في «النطاقات». وفي الحالات التي اجتهدت فيها بتحديد نسب أعلى من السعودة في بعض المهن وجدت أن متابعة ذلك مهمة صعبة، وعندما لا تكون هناك متابعة دقيقة للأنظمة يتم التلاعب بها.
وتستطيع وزارة العمل الأخذ بمبدأ «تصريح العمل» بحيث ترتبط كل فيزا بمهنة معينة يرتبط نشاط الوافد بها، وعند إيقاف من لا يتوافق تصريحه مع ممارسته يتم تسفيره فوراً على حساب المنشأة وتغريم المنشأة مبلغ رادع يذهب لصندوق الموارد البشرية، ويمنع من الاستقدام. وعليها أيضاً حصر ما يسمى بالأعمال الإشرافية في المهن على السعوديين فقط، فنسبة كبيرة من الوافدين لا يمارس العمل بنفسه بل يشغل عمالة وافدة أخرى بفارق أجر ضخم يجني منه أموالاً طائلة ويتحمله المواطن، أي أنه يمارس ما يمكن تسميته بالسمسرة المهنية. وفي أحيان أخرى يستقدم الوافد بوظيفة راعي أو سائق ويعمل مقاول إنشاءات أو يدير نشاط تجاري كبير.
وممارسة الوافدين لتجارة التجزئة أوضح من أن تخفى على جهاز رقابي، وبعضهم يحتكر أنشطة تجارية بشكل تام تقريبا، وهذا ما يجب التركيز عليه بدلاً من التركيز على العمالة اليدوية للمصانع والمقاولات والورش. فالبلد تستفيد من العامل الذي يعمل بيده، وممن يمارس عمل لا يريده السعودي، ولكنها تتضرر كثيراً ممن يعمل تاجراً، أو سمساراً، أو مشرفاً، أو مديراً، أو إدارياً.
ومن المهم جداً أيضا تثقيف شبابنا وتنويره بالأرباح الطائلة التي توفرها قطاعات المقاولات والخدمات والأنشطة المحيطة بها وخاصة في قطاع المهن التي تدرب عليها الشباب في التعليم الفني والمهني. كما أنه يتوجب علينا تشجيع وتوسيع التعليم الفني والمهني بدلاً من التوسع في الجامعات والتعليم الجامعي فقط. فالجامعات تعاني من تكدس الشباب، وكثير منهم لا توجد لديه أي ميول للتعليم والقراءة، وقد يكون لديهم ميول لممارسة النشاطات الفنية والتقنية. ونحن نحتاج للمعاهد المهنية والفنية العالية التي توفر الأعمال والوظائف ذات الدخل المجزي. وتوفر مثل هذه الخبرات الفنية الوطنية هو الدافع الأول لنجاح الصناعات المحلية، وجذب الاستثمارات الخارجية.
وفي الختام فالجميع يطلب من وزارة العمل الإصغاء عن قرب لشكاوى طالبي العمالة ممن يحتاجونها فعلاً في أنشطة مهمة للوطن ولا تمنح لهم بأعداد كافية ضرورية لاستمرار أنشطتهم، وأن تعيد النظر في أمر آخرين ممن منحت لهم فيز لا يحتاجونها وأغرقوا البلاد بعمالة لا تحتاجها نافست المواطن في رزقه، وتسببت في استنزاف اقتصاده، وشجعت على بطالته.