د. محمد عبدالله الخازم
كنت أقضي وقتًا جميلاً أثناء دراستي الجامعية بمكتبة جامعة الملك سعود مستمتعًا بالقراءة الحرة في كثير من الجوانب، بما فيها المتعلقة بالمذاهب والأديان والأدب والفلسفة، وغيرها. وقد كان لذلك أثر في تنوع ثقافتي وتنمية اهتماماتي خارج تخصصي. بعد سنوات عدة، عدت لنفس المكتبة ليس للبحث عن الجديد، فقد علمت بأن الجمود أصاب المكتبات الجامعية ولم تعد تعنى باقتناء الإنتاج الثقافي، ولكن للبحث عن تلك المراجع القديمة التي سبق أن أطلعت عليها لإعادة قراءتها ولتوثيق بعض إنتاجي الثقافي، وللأسف لم أجد كثيرًا منها وبعضها وجدته غير مكتمل. سألت عن غياب تلك المراجع فأجابني المسؤول بأن حماة الصحوة أصبحوا يراجعون كثيرًا من الكتب بعين الفاحص الباحث عن المخالفات - كما يرونها - ومن ثم تولي إزالتها تارة بأيديهم وتارة عبر الكتابة للجهات المعنية التي تتجاوب معهم، قناعة أو إتقاء لنقمتهم وإثارتهم...
وفي قصة أخرى تتعلق بالموضوع، عندما صدر كتابي «اختراق البرج العاجي» حاول الناشر بيعه على بعض المكتبات الجامعية، لأن موضوعه يتعلق بالتعليم العالي، فلم تتفضل أية جامعة بشرائه، لأنه يناقش موضوع اعتبر ذا حساسية كونه يتعلق بالاختراق الأيدلوجي لبنية التعليم العالي السعودي ومركزيته وضعف استقلالية جامعاته. بل إنني مازحت اثنين من مديري الجامعات السعودية أثناء أحد معارض التعليم العالي، بالقول هل تقبلان بأن أحاضر بجامعتيكما، حول موضوع أدلجة التعليم الجامعي. فكانت الإجابة مرحبًا بك ضيفًا عزيزًا بالجامعة لكن ليس محاضرًا في هذا الموضوع، فهو مصدر إثارة...! المعنى هو أن الجامعات تتردد في مناقشة الموضوعات المثيرة وسياستها في سحب الكتب من مكتباتها تمتد إلى عدم إقتناء العنوان المثير للجدل وعدم إتاحة منابرها للنقاش الحر.
استعيد تلك القصص ويبدو أن نمط تفكيرنا لم يتغير.. اليوم نشهد موجة تتبع عجيبة لمقررات ومؤلفات أشخاص بذاتهم، وصلت أن تذهب إحدى الصحف لمكتبات الجامعات للتأكَّد من وجود كتاب بذاته بالجامعة، ولم نجد مسؤول جامعة واحدة يدافع عن أهمية تنوع الفكر بمكتبات الجامعة. والعجيب هو مباركة مثقفين يصنفون بالتنويريين لمثل هذه الخطوات، بالرغم من أنهم (يقيمون الدنيا) لو منعت رواية أو مقالة لأحدهم من النشر. لن أتطرق لسحب الكتب من المدرسة الابتدائية، بحكم عدم تخصصي في تعليم النشء وربما توجد دراسات علمية حول محتوى القراءة المفترض بالمرحلة الابتدائية. لكن بالنسبة للتعليم الجامعي؛ يؤسفني الاستمرار والإصرار على تفريغ محتوى مكتباتنا الجامعية من التنوع الفكري والثقافي، وهو أساس التعليم الجامعي والبحث العلمي. لا قيمة للتعليم الجامعي أن لم يتسم بالحرية الفكرية والتنوع الثقافي. بل إنه أمر مستغرب أن تحاول تدريس مذهب أو دين أو فكر على المستوى الجامعي دون مقارنته بالآخر. يؤسفني أننا نحجر على فكر الطالب الجامعي وباحث الدراسات العليا وأستاذ الجامعة بتفريغ مكتباتنا الجامعية من قيمتها الحقيقية، وربما يتبع ذلك منعهم من البحث في المسائل الشائكة وتمحصيها علميًا. إذا كنا نخشى تأثر الطالب الجامعي والباحث بفكر كاتب أو كاتبين، أو جماعة أو حزب، فهذا يعني وجود خلل كبير في تعليمنا وتربيتنا الأساسية. ويعني أن فكر الوصاية على ما يجب أن نقرأ ونتعلِمَ لا زال سائدًا.
المنع والحذف والحرق للكتب طريقة إقصائية غير مناسبة للتعامل مع أي فكر. الجامعات يجب أن تكون منار إشعاع بقبولها التنوع الفكري ومقارعة الفكر بالفكر، لا بمذهبتها وتحويلها إلى مؤسسات أحادية الرأي خائفة مرتبكة من أي فكر آخر أو مختلف.
ليس همي هنا فكر الإخوان أو المعتزلة أو السرورية أو الجامية أو الزيدية أو العلمانية أو غيرها من المذاهب، بقدر ما يقلقني هذا التوجه نحو مصادرة الرأي الآخر والخوف من المعرفة في مفهومها الحقيقي الشامل والمتنوع والقادر على قراءة الآراء والأفكار أيًا كان مصدرها. وأرجو ألا يحجب رأيي هذا أو يتم تصنيفي مع هذا أو ذاك، باعتباري كتبت رأيًا لا يتفق مع أوصياء الفكر والثقافة...