د. محمد عبدالله الخازم
مما لا شك فيه أن التطورات التي حدثت للقطاع الصحي على مستوى المملكة كبيرة جدًا حينما تقاس كإنجازات خاصة بالقطاع، لكنها لم تصل حد الرضا من قبل العاملين في المجال الصحي ومن قبل القيادة والمجتمع، بدليل التغييرات المتلاحقة في قيادات وزارة الصحة خلال فترة قصيرة. قدر هذا القطاع، هو مواجهة تحديات كبرى، ليس على مستوى المملكة فقط بل على المستوى العالمي، سواء في مجال التغيرات الديموغرافية والمناخية، التطورات التقنية، التمويل وزيادة التكاليف، زيادة التوقعات، تغير طبيعة ونوعية الأمراض، قياس الكفاءة وغير ذلك من التحديات. بل إن التحدي الأهم هو حساسية هذا القطاع في مساسه بالإنسان مباشرة منذ الولادة وحتى الموت وكونه متشعبًا ومعقدًا في مهامه وطريقة أدائه التي يدخل فيها العنصر البشري والإنساني والاجتماعي والتقني والاقتصادي.
الإستراتيجيات
وبعيدًا عن التفاصيل الفنية أقترح على معالي وزير الصحة الحذر من الانزلاق في مشروعات الإستراتيجيات النظرية وبعضها السابق شاركت في صياغته جهات وشركات وخبرات مرموقة. لأنه ببساطة رغم الشكل الظاهري الجميل لتلك الإستراتيجيات إلا أننا فشلنا في تحقيقها، لأسباب يطول المجال لشرحها. لذلك سأكون أكثر تركيزًا وابتعد عن التفاصيل قدر الإمكان باقتراح خمسة محاور: أفكار أساسية، بعيدًا عن مصطلحات الإستراتيجيات. أعتقد أنه يمكن من خلالها صنع الفارق، متى وجدت القناعة والإرادة لتنفيذها...وتحديدًا متى تم تبنيها من قبل جهات أعلى من وزارة الصحة، كمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية.
وأول هذه المحاور «تطوير الخدمات الصحية هم وطن وليس هم وزارة الصحة». وللتوضيح فإن أكبر مشكلة يعاني منها القطاع الصحي حاليًا تتمثل في حجم الخدمات، عدد المستشفيات والأسرة وتوزيعها، ووزارة الصحة حتى في أفضل عصور الطفرة التي حدثت في السنوات الماضية فشلت ولم تستطع تنفيذ الكثير في هذا الشأن على أرض الواقع. طبعًا نتحدث عن المنجز الحقيقي وليس الإعلامي أو الوعود. وفي نفس الوقت نرى إسهامات بعض القطاعات الحكومية الأخرى محدودة في هذا الشأن لكنها متميزة في النوعية وتتركز في المدن الرئيسة. لذلك أطرح الفكرة الأولى التي يمكن أن تتم تحت مظلة مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، وتتمثل في زيادة إسهام تلك القطاعات في حجم الخدمات الصحية فحاليًا تتولى وزارة الصحة تقديم ما نسبته 60 في المائة من الخدمات الصحية تقريبًا والقطاعات الحكومية الأخرى تقدم نحو 20 في المائة والباقي يقدمه القطاع الخاص، فماذا لو قمنا بزيادة مساهمة القطاعات الأخرى كوزارات الدفاع والحرس الوطني والداخلية والتعليم في مشروعات الخدمات الصحية لتصل إلى 30 في المائة أو أكثر خلال السنوات القليلة المقبلة مستفيدين من خبرات تلك القطاعات في مجال إدارة المشروعات وفي تقديم الخدمات الصحية.
والحل قد يبدأ من تطوير بعض المشروعات القائمة أو التي في طور التنفيذ من قبل مختلف الجهات لتصبح ذات بعد وطني وليس بعدًا يخص القطاع المعني وحدة. على سبيل المثال؛ بدلاً من أن يكون المستشفى العسكري بتبوك مجرد مستشفى لا يعمل بكامل طاقته وخدماته محدودة يمكن تطويره ليصبح مدينة طبية متكاملة لا تقل عن المستشفى العسكري بالرياض. وبدلاً من تأسيس مستشفى تابع للحرس الوطني بالقصيم لا تزيد سعته عن مائتي سرير يمكن جعله مستشفى تخصصيًا بستمائة سرير. وبدلاً من أن تؤسس جامعة الباحة مستشفى سعته ثلاثمائة سرير يمكنها تطوير مدينة طبية تحوي مستشفيات أطفال وتأهيل ومركز قلب وغيرها من الخدمات، وهكذا يجب أن تكون لدينا خريطة وطنية صحية ويكلف كل قطاع بتطوير خدماته بما يحقق تنفيذ تلك الخارطة. بل أرى أنه لا مانع من تسليم وزارة الصحة بعض مشروعاتها لجهات أخرى لإكمالها، أو حتى الأخذ من ميزانية وزارة الصحة لتطوير مشروعات الجهات الأخرى. يجب إلا نكابر وأن تعترف بعدم قدرة وزارة الصحة على القيام بزيادة حجم الخدمات الصحية وعلى تنفيذ كثير من المشروعات على مستوى الوطن. يجب أن نمد يد العون لوزارة الصحة ونساندها في تنفيذ مشروعاتها وفي زيادة الطاقة الاستيعابية للخدمات الصحية.
أما محور الفكرة الثانية فأقترح تأسيس هيئة مستقلة لتنظيم الخدمات الصحية، وفكرتها تكمن في استقلاليتها ومنحها الصلاحيات التنظيمية الكافية.
أما المجلس الصحي السعودي، الذي كان يعرف بمجلس الخدمات الصحية فلم يكن فعالاً بما فيه الكفاية رغم مرور أكثر من عشر سنوات على إنشائه، والسبب الرئيس في ذلك هو تركيبته بكونه مجرد لجنة توافقية تمثل مختلف الجهات وتحكمها المجاملات، برئاسة معالي وزير الصحة. ولأنه مجلس غير فعال فإنه يناقش قضايا هامشية وصغيرة ولم يخرج بأية قرارات كبرى في مسيرة التطور الصحي. الهيئة التي اقترحها هي هيئة دائمة وبأعضاء لا يمثلون أي قطاع صحي بل هم معنيون بفرض الأنظمة التي تجعل منظومة الخدمات الصحية متكاملة ومتناسقة. وهناك أمثلة ليس المجال لاستعراضها في قطاعات أخرى...
وهناك أكثر من مجال يمكن أن يكون للهيئة دور فيه، على سبيل المثال أرى أهم مجالات عمل الهيئة، تتمثل أولاً في التنسيق على مستوى الأنظمة الوظيفية؛ المشتريات، المعلومات الصحية، التخطيط الإستراتيجي، الجودة وغيرها. قد يبدأ ذلك على مستوى الوحدات عن طريق المشاركة في السياسات واللوائح والمعلومات، وغير ذلك. على أن الهدف هنا هو التكامل والتنسيق وتبادل المعلومات والاستفادة من الموارد المختلفة، وليس المركزية أو التحكم من قِبل جهة واحدة.
ثانيًا: التنسيق على مستوى الكوادر البشرية وأهم عنصر هنا هو الأطباء. والمطلوب هنا هو كيف نجعل من عمل الطبيب ذا جدوى اقتصادية عالية، ومهنية، بحيث يستفاد منه عبر أكثر من قطاع ووفق الوظائف المطلوبة، سواء الخدمية أو التدريبية. بمعنى آخر، يصبح هناك نظام مرن، يجعل من الطبيب قيمة يستفاد منها وطنيًا، بغض النظر عن مرجعيته المؤسسية. حاليًا، رغم قلة الأطباء فإنه يضاف إلى ذلك هدر كبير في الاستفادة منهم بشكل أمثل، فنجد منهم صاحب التخصص النادر في مستشفى لا يستفيد بشكل مثالي من تخصصه، وهناك أطباء تخصصات نادرة متفرقون بين أكثر من مؤسسة بشكل يجعل الاستفادة منهم غير مثالية، وهناك جهات لا تقدر التخصص الطبي كالآخرين فيهرب منها المتميزون؛ ويتكدسون في مؤسسات محددة، وهكذا. كما نجد ضعف التنسيق بين المؤسسات في إخراج برامج تدريبية متقدمة.. إلخ
ثالثًا: التنسيق على مستوى الخدمة السريرية وهنا يصبح المطلوب وجود مظلة تنظيمية تنظر للخدمة الصحية من منظور التكامل الرأسي على مستوى الرعاية من أساسية إلى متقدمة، وأفقيًا على مستوى توزيع ونوعية العيادات والمراكز وتكاملها بدلاً من تكرارها بشكل يخل بأدائها. وهنا يجب تطوير التعامل مع الأمراض وتسهيل انتقال الملف الطبي من مستوى إلى آخر، ومن مؤسسة إلى أخرى. بمعنى آخر، التأكَّد من تقليص الفجوة والفراغ والتكرار في الفحوصات والاختبارات والخدمات الذي يحدثه وجود جهات أشبه بجزر معزولة عن بعضها في تعاملها، كل مع الأخرى.
توقعات غير منطقية
أما المحور أو الفكرة الثالثة: فلا أحد يختلف على أن أكبر معوقات العمل بوزارة الصحة هو مركزيتها وما تقود إليه من بيروقراطية مفرطة، فحجم القطاع الصحي كبير ومنتشر بكافة أرجاء الوطن بحيث يقارب العاملون فيه 400 ألف موظف أو أكثر، وعلى الرغم من ذلك نحن نتوقع أن يستطيع الوزير حل مشكلة ممرض أو حارس مستشفى في أقصى الشمال وأن يتابع وجود الأدوية في أقصى الجنوب وأن يتأكَّد من تنفيذ المشروعات في أقصى الشرق. لو فكر وزير الصحة أن يزور مستشفيات ومراكز وزارته فإنه يحتاج التفرغ لهذا العمل لمدة سنتين أو أكثر. هذا أمر غير منطقي، لذلك يجب تقليص المركزية في الإدارة الصحية ومنح المناطق صلاحيات كبرى، وقد يبدأ ذلك بمناطق محددة، إذا كانت هناك صعوبات في التطبيق الشامل للفكرة.
وموضوع المركزية، ليس بالجديد، وجميع الوزراء يتفقون على أن المركزية عائق أمام التطوير، يبدأ البعض منهم بالشكوى من المركزية وينتهي عهده بزيادة حجم المركزية. واحد الأسباب هو التفكير الدائم بطريقة تقليدية ومكررة. أقترح هنا اتباع نموذج البلديات باعتباره أحد أنجح النماذج اللا مركزية في المملكة، حيث نرى أمانات المدن أو المناطق مستقلة بميزانياتها وخططها ودور الوزارة ينحصر في التنسيق وفي دعم البلديات الصغيرة. تصور لو كانت أمانات جدة والرياض والدمام غير مستقلة، هل كنا سنرى المدن العالمية الحالية؟ لماذا لا يطبق هذا النموذج في الخدمات الصحية فتصبح كل منطقة مستقلة كما هي الأمانة مستقلة؟ ولماذا لا نبدأ مثل ما فعلت البلديات بالمناطق الكبرى؟ إن مجرد منح صلاحيات هنا أو هناك دون استقلالية في الميزانية واستقلالية تنفيذية لن يكون حلاً جذريًا، وقد تكرر فشله في المرات السابقة..
الرعاية الأولية
أما المحور الرابع، الذي أقترحه فهو موضوع الرعاية الأولية، ومرة أخرى لست أضع ترتيبًا هنا. وهو مثل موضوع المركزية أكاد أجزم بأن جميع وزراء الصحة السابقين تحدثوا عنه، لكنه طيلة عقد ونصف من الزمان لم يستطع أحدهم تطويره بشكل مثالي. أحد الأسباب الرئيسة هو أنهم جميعًا ظلوا يفكرون في هذا الموضوع بنفس الطريقة ممثلة في التعامل مع الرعاية الأولية كمراكز صحية أو كمبانٍ. بل إن آخر تقرير نشر في هذا الشأن كرر مشكلة يعاد عرضها منذ أكثر من عشر سنوات وتتمثل في نقص المباني والأراضي، لأنهم يفكرون بنفس الطريقة التقليدية دائمًا. لذا أدعو معالي وزير الصحة وفريقه أن يتعاملوا مع الرعاية الأولية كطب أسرة بحيث يكون لكل أسرة طبيب يرعاها سواء كان ذلك بمكتب في أحد الأسواق أو شقة داخل أحد الأحياء، وبدلاً من التفكير في التأمين أو التخصيص أو (الأوت سروسينق) ككتلة واحدة لتكن البداية مع الرعاية الأولية بحيث يكون هناك تأمين مقابل عدد أفراد الأسرة وزياراتهم وسجلاتهم لدى طبيب الأسرة وليدعم القطاع الخاص في إيجاد عيادات طب الأسرة ويتم تحويل مراكز الرعاية الأولية إلى مقار خدمات مساندة كخدمات المختبرات والأشعة وغيرها.
هذا مفهوم جديد، حيث إن كثيرين يرون أن الرعاية الأولية هي ما يجب أن تقوم به وزارة الصحة مع تخصيص الخدمات العلاجية، أو التأمين على الخدمات العلاجية، ربما كانت فكرة جيدة بالنسبة لنا، لكن مع التجربة والاطلاع على نماذج متقدمة، أعتقد أننا بحاجة إلى تغيير طريقة التفكير في هذا الموضوع. وزارة الصحة مسؤولة عن التشريعات والصحة العامة بمفهومها الشامل، لكن كخدمة مباشرة فإن الأمثلة المطبقة في دول متقدمة في هذا الشأن تتضمن تغطية طب الأسرة بالتأمين الحكومي أو بالحساب الصحي الحكومي، لكن لا تنفذ مباشرة عن طريق الحكومة. بل إن حساب تكلفة خدمات طب الأسرة أو طب الرعاية الأولية ومخرجاتها قد يكون أسهل بكثير من التأمين لكافة الخدمات الصحية ومجرد تخصيص قطاع الرعاية الأولية سيقود المستثمرين في هذا المجال والأطباء المتخصصين إلى ولوج بابه بقوة لأن تكاليف تأسيسه ليست عالية ودخله مضمون باعتبار الدولة هي من سيدفع التكاليف نيابة عن المواطنين. وبالطبع تكون أحد مهام هيئة تنظيم الخدمات الصحية إيجاد آلية تحويل المرضى من مراكز طب الأسرة للخدمات الصحية على مستوى الدرجة الثانية والثالثة بالمستشفيات. نحتاج أن نفكر بطريقة خارج صندوق مراكز الرعاية الأولية..
مشكلة التدريب هي الجودة
أما المحور الأخير فيتمثل في تطوير القوى العاملة فهو أمر أساسي مفروغ منه. مشكلتنا مع الكوادر ليست في الإعداد أو المخرجات الأساسية، لأن هذه المشكلة في طريقها للحل مع التوسع الضخم في الكليات الطبية والصحية، بل إننا سنجد فائضًا في مخرجات بعض التخصصات الصحية خلال السنوات العشر المقبلة. الإشكالية هي في جودة تلك المخرجات والتدريب والتطوير المتقدم. نحتاج تطوير آلياتنا في هذا الشأن بدءًا من تطوير الجانب التشريعي والتنظيمي وتطوير آليات استقطاب أفضل للكوادر المتميزة، والمحافظة عليها.. إلخ. قد يكون مناسبًا هنا الإشارة إلى ضرورة إعادة هيكلة هيئة التخصصات الصحية وفصل مهام التدريب عن التصنيف والترخيص للممارسة وإيجاد برامج تدريب محلية متميزة يشرف عليها مجلس مستقل للتدريب.
وأقترح بالنسبة للمجال الطبي أن يكون هناك مجلس للتدريب الطبي (أو هيئة) منفصل عن هيئة التخصصات الصحية، يكون معنيًا باعتماد برامج التدريب وتقديم الاختبارات ذات العلاقة. وأقصد هنا الفصل بين مهام التصنيف والتسجيل والترخيص من جانب وبين مهام تطوير التدريب والإشراف عليه. هذه مجرد فكره عاجلة حول التدريب الطبي وبالتأكيد المجال الصحي أوسع من مجرد التدريب الطبي، ويحتاج تفاصيل أكبر.
وأخيراً أود القول إن محاولة وزارة الصحة إصلاح الخدمات الصحية بمفردها سيكون كمن يحفر في الصخر. فالأفكار أعلاه تتطلب تبنيها من قبل المجلس الأعلى للشؤون الاقتصادية والتنمية ومن ثم مجلس الوزراء باعتبارهما المظلة التي تجمع جميع الجهات المعنية بالإصلاح. وبالطبع وزير الصحة هو المعني بدراستها وتحويلها إلى مشروعات وسياسات يمكن الدفع بها للأعلى، في حال كانت مجدية...